[ ص: 659 ] وقد ادعي الإجمال في أمور ، وليست كذلك . منها نحو : ( حرمت عليكم الميتة ) [ المائدة : 3 ] ، أي : أكلها ، و أمهاتكم [ النساء : 23 ] ، أي : وطؤهن عند أبي الخطاب وبعض الشافعية خلافا للقاضي والكرخي .
لنا : الحكم ، المضاف إلى العين ينصرف لغة وعرفا إلى ما أعدت له وهو ما ذكرناه .
قالوا : المحرم فعل يتعلق بالعين ، لا نفسها ، والأفعال متساوية .
قلنا : ممنوع ، بل الترجيح عرفي كما ذكر ، وكذا ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) [ البقرة : 275 ] ، مجمل عند القاضي لتردد الربا بين مسمييه ، اللغوي والشرعي .
قوله : " وقد ادعي الإجمال في أمور وليست كذلك " .
أي : ادعى بعض العلماء في بعض الأمور أنها مجملة ، وليست مجملة .
" منها " ، أي : من تلك الأمور التي ادعي الإجمال فيها وليست مجملة ، إضافة الأحكام إلى الأعيان ، نحو قوله عز وجل : ( حرمت عليكم الميتة ) [ المائدة : 3 ] ، ( حرمت عليكم أمهاتكم ) [ النساء : 23 ] ، و ( أحل لكم الطيبات ) [ المائدة : 4 ] ، لا إجمال فيه عند أبي الخطاب وبعض الشافعية ; لأن المراد : حرم عليكم أكل الميتة ، ووطء الأمهات . وأحل لكم أكل الطيبات . وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=14959القاضي عبد الجبار ، والجبائي وابنه ، وأبي الحسين البصري ، خلافا للقاضي أبي يعلى ، والكرخي ، وأبي عبد الله البصري ، [ ص: 660 ] حيث زعموا أن ذلك مجمل .
" لنا " على عدم الإجمال : أن " الحكم المضاف إلى العين ، ينصرف لغة وعرفا إلى ما أعدت له " من الأفعال ، وهو ما ذكرناه من أكل الميتة ، ووطء الأمهات ، إذ ليست الميتة والأمهات معدة في مشهور العرف إلا لذلك ، ولهذا لما قال الله سبحانه وتعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) [ المائدة : 1 ] ، ( أحل لكم صيد البحر ) [ المائدة : 96 ] ، ونحو ذلك ; فهم منه الأكل ، ولما قال الله سبحانه وتعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] ; فهم منه النكاح ، وإن كان في الاستدلال بهذا نظر ، وأيضا فإن الإجمال يخل بالتفاهم المقصود من الكلام ، وهو على خلاف الأصل .
- قوله : " قالوا : " إلى آخره . هذا دليل الخصم على الإجمال .
وتقريره : أن الأعيان أنفسها لا تتصف بالتحريم ، وإنما المحرم فعل يتعلق بها ، والأفعال متعددة متساوية ، إذ لا يدري هل المحرم من الميتة أكلها ، أم بيعها ، أم النظر إليها ، أم لمسها ؟ ومن الأم وطؤها ، أم النظر إليها ، أم لمسها ؟ وإضمار جميع الأفعال المحتملة تكثير لما هو على خلاف الأصل ، وهو الإضمار ; فلا يجوز إضمار فعل معين لا دليل في اللفظ عليه ; فتعين الإجمال ، وهو المطلوب .
- قوله : " قلنا : ممنوع ، بل الترجيح عرفي كما ذكر " ، أي : تساوي الأفعال في فهم تعلقها بالأعيان ممنوع ، بل رجحان تعلق بعضها حاصل بالعرف ، كما ذكر من أن أهل اللسان والعرف تبادر أفهامهم من قول القائل : [ ص: 661 ] حرمت عليك هذا الطعام ; إلى تحريم أكله ، وحرمت عليك هذه المرأة ، إلى تحريم وطئها ، دون ما سوى ذلك . ولو سلمنا عدم هذا الرجحان عرفا أو لغة ، لكنا نضمر جميع الأفعال التي يحتمل تعلقها بالعين ; لأن الإضمار وإن كان على خلاف الأصل ، لكنه أقل مفسدة من الإجمال ، وإذا أضمرنا جميع الأفعال ; فلا إجمال ، والله أعلم .
- قوله : " وكذا " : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) [ البقرة : 275 ] ، مجمل عند القاضي ; لتردد الربا بين مسمييه اللغوي والشرعي لأن الربا في اللغة : الزيادة كيف كانت ، وحيث كانت ، وفي الشرع : هو زيادة مخصوصة ، وهو التفاضل في الأموال الربوية ، كبيع درهم بدرهمين ، وصاع بصاعين ; فنتوقف فيه ، حتى نعلم أي الزيادتين أراد . هكذا قرره بعض الأصوليين على ما ذكرت .
والشيخ أبو محمد إنما ذكر هذا في قوله عز وجل : ( وأحل الله البيع ) فقط ، وهو أصح وأولى .
وبيان ذلك : أن البياعات في الشرع ، منها حلال كالعقود المستجمعة لشروط الصحة ، ومنها حرام كبيوع الغرر ، وبيع التلقي ، والحاضر للبادي ، والبيع وقت النداء ، ونحوه .
فمن الناس من زعم أن البيع في قوله عز وجل : ( وأحل الله البيع ) مجمل ، لتردده بين البياعات الجائزة والمحرمة ، ثم ورد البيان من الشرع ، بالمحرم منها من الجائز .
[ ص: 662 ] ومنهم من قال : إنه عام في البيوع الجائزة وغيرها ، ثم خص المحرم منها بأدلة التحريم ، وبقي ما عداه ثابتا بالعموم الأول ، والقولان متقاربان ; لأن تخصيص العموم نوع من البيان .
نعم ، تظهر فائدة الخلاف في قوله عز وجل : ( وأحل الله البيع ) [ البقرة : 275 ] ، إن قلنا : هو مجمل بين كان حجة بلا خلاف ، وإن قلنا : هو عام خص كان في بقائه حجة الخلاف السابق ، في أن العام بعد التخصيص حجة أم لا ، وعلى كل حال ، فكونه من باب العام المخصوص أولى ، وأكثر ، وأشهر .