أما البيان ; فقيل : الدليل ، وهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .
وقيل : ما دل على المراد مما لا يستقل بنفسه في الدلالة ، وهما تعريف للمبين المجازي لا للبيان . فقيل : إيضاح المشكل ، فورد البيان الابتدائي ، فإن زيد بالفعل أو القوة زال ، ويحصل البيان بالقول ، والفعل ، كالكتابة ، والإشارة ، نحو : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، ونحو : صلوا ، وخذوا ، وبالإقرار على الفعل ، وكل مقيد من الشارع بيان ، والبيان الفعلي أقوى من القولي ، وتبيين الشيء بأضعف منه كالقرآن بالآحاد جائز ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا على تكليف المحال ، وعن وقت الخطاب إلى وقتها جائز عند القاضي ، وابن حامد ، وأكثر الشافعية ، وبعض الحنفية ، ومنعه أبو بكر عبد العزيز ، والتميمي ، والظاهرية ، والمعتزلة .
قوله : " المبين : يقابل المجمل " ، وقد سبق للمجمل تعريفان ; فخذ ضدهما في المبين .
فإن قلت : المجمل : هو اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء ، قل في المبين : هو اللفظ الناص على معنى ، غير متردد ، متساو .
وإن قلت : المجمل : ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين ، قل : المبين ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين ، من نص أو ظهور ، بالوضع أو بعد البيان .
[ ص: 672 ] قال القرافي : المبين : هو اللفظ الدال بالوضع على معنى ; إما بالأصالة ، وإما بعد البيان .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : المبين قد يراد به الخطاب المستغني بنفسه عن البيان ، وقد يراد به ما يحتاج إلى البيان عند وروده عليه ، كالمجمل وغيره .
قلت : المعاني متقاربة .
قوله : " أما البيان ; فقيل : الدليل " ، يعني أن الكلام السابق كان في المبين ، وهذا في البيان ، والفرق بينهما ظاهر ، يقال : مجمل وإجمال ، ومبين وبيان .
فالمجمل : اللفظ المتردد .
والإجمال : إرادة التردد من المتكلم ، أو النطق باللفظ على وجه يقع فيه التردد .
والمبين : اللفظ الدال من غير تردد .
والبيان : نحن الآن في الكلام فيه .
" فقيل " : هو " الدليل " ، وهو قول القاضي أبي بكر ، والجبائي وابنه ، وأبي الحسين البصري ، nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي ، وأكثر الأشعرية ، واختيار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي .
وقال أبو عبد الله البصري : وهو العلم الحاصل عن دليل .
وقال الصيرفي : هو التعريف .
والأقوال متقاربة ، والمسألة لفظية ، أو كاللفظية ; لأن التعريف من آثار [ ص: 673 ] الدليل ; فاستوت ، أو تقاربت الأقوال جدا ، ويجمع الكل معنى الظهور ، إذ يقال في اللغة : بان الشيء يبين بيانا ، إذا ظهر واتضح ، والدليل يوضح ما دل عليه ، ويظهره ، ويعرفه .
قوله : " وهو " ، يعني الدليل ، " ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري " .
فقولنا : " ما يمكن التوصل به " ، يعني ما كانت له صلاحية الاتصال إلى المطلوب ، ليعم الدليل بالقوة والفعل ، أي : ما استعمل في التوصل إلى المطلوب ، وما صلح للتوصل إلى المطلوب ، وإن لم يستعمل في التوصل إليه ، كقولنا : يصلح أن يستدل بقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام [ البقرة : 188 ] ، على أن حكم الحاكم لا يحيل الشيء عن صفته في الباطن ; لأنه سبحانه وتعالى سمى الأموال مأكولة بالباطل ، مع الإدلاء بها إلى الحكام .
وقولنا : " بصحيح النظر " : احتراز مما يوصل بفاسد النظر فيه إلى مطلوب ، فإن ذلك المطلوب ، إن قدرناه صحيحا ، كان التوصل إليه بفاسد النظر ممتنعا ، وإن قدرناه باطلا ، لم يكن ما توصلنا به إليه دليلا .
وقولنا : " إلى مطلوب خبري " : يعم ما أوصل إلى علم ، كقولنا : الإنسان حيوان ، وكل حيوان جسم ; فالإنسان جسم . أو إلى ظن ، كغالب مسائل الفروع .
ثم اختلفوا ; فمنهم من سماه دليلا ، سواء أوصل إلى علم أو ظن ، ومنهم من خص الدليل بما أوصل إلى علم ، وسمى ما أوصل إلى ظن أمارة ، - بفتح [ ص: 674 ] الهمزة وهي العلامة - ولعله أقرب إلى التحقيق ، والخلاف اصطلاحي .
- قوله : " وقيل : ما دل " ، أي : وقيل : البيان ما دل " على المراد ، مما لا يستقل بنفسه في الدلالة " ، يعني إذا ورد لفظ لا يستقل بنفسه في الدلالة كالقرء ونحوه ; فما دل على المراد من ذلك اللفظ ، هو البيان كما سبق مثاله في المجمل . فهذان تعريفان للبيان :
أحدهما : بأنه الدليل .
والثاني : بما ذكر ههنا .
قوله : " وهما تعريف للمبين المجازي ، لا للبيان " ، يعني أن تعريف البيان بالدليل ، وبما دل على المراد ، مما لا يستقل بنفسه ، ليس تعريفا للبيان ، بل للمبين المجازي .
وكشف هذا : بأنه لابد لنا من مبين ، بكسر الياء ، ومبين بفتحها ، ومبين به ، وبيان .
فالمبين في الحقيقة هو الشارع ، إذ عنه تظهر الأحكام ، ويطلق مجازا على المبين به ، وهو الدليل ، وهو خطاب الشارع الدال على المراد مما لا يستقل بنفسه .
والمبين : هو المتضح بنفسه ، أو المجمل المحتاج إلى البيان . فقد اتضح بهذا أن التعريفين المذكورين للبيان ليسا تعريفا له ، بل للمبين المجازي ، أي : الذي يسمى مبينا بطريق المجاز .
قوله : " فقيل إيضاح المشكل ، فورد البيان الابتدائي " أي : لما لم [ ص: 675 ] يتحصل لنا تعريف البيان بالحقيقة مما سبق ، احتجنا إلى أن نذكر تعريفه .
وقد قيل : هو إيضاح المشكل ، وهذا مختصر ما حكاه الشيخ أبو محمد فيه ، أنه إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح ، فلما عرف بهذا ، ورد عليه البيان الابتدائي ، أي : الخطاب الدال على المراد به ابتداء ، من غير احتياج إلى بيان خارج ، كالنصوص والظواهر ، وما عرف المراد منه بالتعليل بفحوى الخطاب ، أو باللزوم ، كالدلالة على الشروط والأسباب ، كدلالة الصلاة على وجوب الوضوء ، ودلالة الملك على تقدم سببه ، من بيع ، أو هبة ، أو اكتساب ، فإن هذا كله مبين ببيان ، ولم يوجد فيه إيضاح مشكل ; فتعريف البيان بإيضاح مشكل غير جامع .
- قوله : " فإن زيد بالفعل أو القوة ، زال " ، أي : فإن زيد هذا على التعريف المذكور ، زال ورود البيان الابتدائي ، واستقام التعريف ; فيقال : البيان : هو إيضاح المشكل بالقوة أو الفعل ، وذلك لأن الكلام قد يكون مشكلا بالفعل ، أي : إشكاله ظاهر موجود ، وقد يكون مشكلا بالقوة ، أي : هو قابل لأن يرد مشكلا ، وذلك لأن مادة الكلام لذاتها قابلة للإشكال ، بحسب اختلاف نظمه وصيغه ، ومقاصد المتكلمين به .
ومثال هذا : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022260لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، وهذا كلام بين بنفسه ، صحيح على قواعد الشريعة . ونقل [ ص: 676 ] بعض الحنفية عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ، وظاهر هذا مع قوله عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022260لا يدخل الجنة إلا المؤمنون - مشكل ; لأنه يقتضي أن أهل الجنة والنار جميعا مؤمنون ، وليس كذلك ، للاتفاق على أن أكثر أهل النار كفار ، وأنه لا يخلد فيها إلا كافر ، لكن أبو حنيفة رحمه الله ألحق بكلامه بيانا بينه ، وأظهر معناه المراد له ، بأن قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ; لأن الكفار حينئذ يعاينون ما كانوا يوعدون ; فيؤمنون به ، أي : يصدقون ، لكن إيمانا لا ينفعهم ; لأنه اضطراري لا اختياري ، ولقوله عز وجل : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [ غافر : 85 ] ، وقوله عز وجل لفرعون حين قال لما أدركه الغرق : آمنت - : آلآن وقد عصيت قبل [ يونس : 91 ] .
فقد حصل من هذا أن كلام أبي حنيفة مشكل بالفعل ; فاحتاج إلى البيان ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، بين بالفعل ، وهو مشكل بالقوة ، إذ قد كان يمكنه صلى الله عليه وسلم ، أن يورده على نظم يستشكل ، نحو كلام أبي حنيفة .
[ ص: 677 ] بين ، إذ معناه : لا فاعل للنفع والضر إلا الله .
ثم عرض لهذا الحديث بعينه الإشكال ، بقوله عليه الصلاة والسلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022262لا يورد ممرض على مصح ، أي : من له إبل مراض على من له إبل صحاح . وقوله : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022263فر من المجذوم فرارك من الأسد . لأن المتبادر من هذا إثبات العدوى ، وهو يناقض نفيها في الحديث الأول ; فاحتيج إلى بيان المزيل للإشكال ، بالجمع بينهما على وجه صحيح ، وهو أن الحديث الأول ناف للعدوى ، أي : لا يعدي مريض صحيحا ، وأما الثاني ، فلم ينه فيه عن إيراد الممرض على المصح لكونه يعدي الإبل ، بل خشية أن يحدث الله تعالى في إبل مصح مرضا ; فيعتقد أنه من العدوى ; فيكون بذلك مشركا مع الله فاعلا غيره ; فزال الإشكال .
وقد جمع بينهما بغير هذا الوجه ; فقد رأيت كيف كان الحديث الأول بينا بنفسه ، ثم عرض له الإشكال ; فكذلك قد يرد الكلام بينا بالفعل ، وهو [ ص: 678 ] مع ذلك مشكل بالقوة ، أي : قابل لعروض الإشكال له من ذاته ، بتقدير تغير صفته أو من أمر خارج .
قوله : " ويحصل البيان بالقول والفعل " ، إلى آخره . لما فرغ من الكلام على تعريف البيان ، وتحقيق ماهيته ، أخذ في ذكر المبين به ، وهو ما يحصل به البيان .
وقوله عز وجل : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] ; فهذا مجمل لاحتمال أن هؤلاء ملائكة ، أو آدميون ، أو شياطين ، أو غيرهم من المخلوقات ، ثم بينهم بقوله عز وجل : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة [ المدثر : 31 ] .
ونظائر هذا في القرآن الكريم ، والسنة الشريفة كثير .
الثاني : من الأمور التي يحصل بها البيان : الفعل ; فمنه الكتابة ، ككتابة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين بعده ، وغيرهم من أهل الولايات إلى عمالهم في الصدقات ، وغيرها من السياسات ، ولأن الكتابة تقوم مقام اللسان في تأدية ما في النفس ; فكانت بيانا .
فإن قيل : بيان الصلاة والحج إنما حصل بقوله : صلوا ، و : خذوا .
قلنا : ليس كذلك ، إذ هذا اللفظ لا يعلم منه تفاصيل أفعال الصلاة والحج ، بل هو عليه السلام بين بقوله : صلوا ، و خذوا أن فعله مبين لتفاصيل الصلاة والمناسك ، ولهذا قضى مناسكه في حجته راكبا ، ليتعلم منه الناس .
نعم ، يرد على الاستدلال بقوله : صلوا ، و خذوا عني ، سؤال أصح من السؤال المذكور ، وهو أن يقال : إنما أمرهم بذلك أن يسألوه عن أحكام الصلاة والحج ; فيجيبهم عنها ; فيكون البيان قوليا لا فعليا ، كما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : سلوني قبل أن تفقدوني . وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قام مقاما ; فقال فيه : لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلا أجبتكم ، [ ص: 681 ] والقصة مشهورة ; فقوله : خذوا عني ، يعني بالسؤال ، لا بالاقتداء بالأفعال .
والجواب عنه : أن هذا وإن كان محتملا ، لكنه خلاف الظاهر ; لأن المنقول عنه عليه السلام ، أنه قال لهم : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022089خذوا عني مناسككم ، وهو متلبس بفعل المناسك ، كالطواف والسعي وغيره ، وأمره لهم بذلك في هذه الحالة ، دليل على أن مراده اقتداؤهم بأفعاله ، عملا بقرينة الحال ، والله تعالى أعلم .
وبالجملة فقد سبق في الكلام على السنة ، أن القول ، والفعل ، والإقرار على الفعل أو الترك - سنة ، وهي دليل وحجة ، وما كان دليلا في نفسه ، صلح أن يكون بيانا لغيره .
قوله : " وكل مقيد من الشارع بيان " ، هذه قاعدة كلية فيما يحصل به البيان ، يتناول ما سبق ، وما يأتي بعد ، إن شاء الله تعالى ، وذلك من وجوه :
فبين سبحانه وتعالى لنا بذلك طريق الاستدلال على إمكان البعث [ ص: 682 ] والمعاد ، ولولا هذا الطريق الذي فتحه الله للمؤمنين ، لما اجترأ متكلموهم أن يستدلوا عليه ، ولا يتكلمون مع الفلاسفة المنكرين له فيه .
وقال للخثعمية : أرأيت لو كان على أبيك دين . فبين أن دين الله كدين [ ص: 683 ] الآدمي ، في وجوب القضاء ، وقبول النيابة ، وأولى ، وهذا كثير في الشرع .
الوجه الثاني : الترك : مثل أن يترك فعلا قد أمر به ، أو قد سبق منه فعله ; فيكون تركه له مبينا لعدم وجوبه .
وذلك كما أنه قيل له : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] ، ثم إنه كان يبايع ولا يشهد ، بدليل الفرس الذي اشتراه من الأعرابي ، ثم أنكره البيع ; فشهد له nindex.php?page=showalam&ids=2546خزيمة بن ثابت لا عن حضور ، بل عن تصديقه عليه الصلاة والسلام ; فعلم أن الإشهاد في البيع غير واجب . وصلى النبي صلى الله عليه وسلم ، التراويح في رمضان ، ثم تركها خشية أن تفرض عليهم ; فدل على عدم وجوبها ، إذ يمتنع منه ترك الواجب .
قوله : " والبيان الفعلي أقوى من القولي " ، أي : البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول ، ولا خلاف في جواز البيان بهما ، إلا عند شذوذ من الناس في البيان الفعلي .
والدليل على أنه أقوى من القولي : أن الفعلي فيه مشاهدة وعيان لصورة الفعل ، وذلك زيادة على ما يفيده مجرد القول ; فالبيان الفعلي مدرك بالتصور الذهني ، والإدراك الحسي ، بخلاف القولي ، إذ ليس فيه إلا التصور الذهني فقط ; فكان الفعلي أقوى .
ولهذا كان غالب الناس عالما بأفعال الصلاة ، لتكرر أفعالها عليهم في اليوم والليلة خمس مرات ، بخلاف أفعال الحج ، فإن صبيان مكة - شرفها الله تعالى - أعلم بها من كثير من فقهاء الآفاق المبرزين في العلم ، لدربة أولئك الصبيان بها دونهم .
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أراد أن يعرف أصحابه مثل ابن آدم ، وأجله ، وأمله ، خط لهم خطا مربعا ، صور لهم ذلك فيه ، كما صح في السنة .
اعلم أن البيان ; إما أن يكون أقوى من المبين ، أو مساويا له ، أو أضعف منه في الدلالة ، ولا خلاف في جواز البيان بالأقوى .
واختلفوا في البيان بالأضعف ; فأجازه أبو الحسين بالأضعف والمساوي ، واشترط أن يكون البيان راجحا . واحتج بأنه لو لم يكن راجحا ، لكان إما مساويا ، أو مرجوحا .
والأول يلزم منه الوقف ، إذ ليس أحد المتساويين بأولى بأن يكون بيانا للآخر من العكس .
والثاني : يلزم منه ترك الراجح بالمرجوح ، وهو ممتنع . وهذا حجة الكرخي على منع البيان بالأضعف .
ومع ذلك لا يتجه قول أبي الحسين ; لأن تبيين اللفظ بما هو أضعف [ ص: 686 ] دلالة منه غير معقول ; لأن التبيين تخليص ، وتمييز لبعض الاحتمالات من بعض ، والضعيف لا يخلص القوي ، وما ذاك إلا بمثابة تعديل الفاسق للعدل ، وتصيير الماء الطاهر طهورا بإضافة الماء النجس إليه ، والتعريف بالأخفى ، كقولنا : الأسد هو الغضنفر ، أو الدلهمس ، والعنكبوت : هو الخدرنق ، والأرنب : الخرنق ، وأشباه ذلك ، وهو ممتنع ، اللهم إلا أن يقال : إن البيان بالأضعف يجوز بالإضافة إلى من ذلك الأضعف عنده أقوى ، لكن بالإضافة إلى هذا الشخص ليس بيانا بالأضعف بل بالأقوى ، كما يقال للعراقي : الفول الباقلا ; لأن الباقلا أشهر عنه ، وبعكس ذلك في المصري ونحوه ; لأن الفول عندهم أشهر .
واعلم أن هذه ليست مسألة " المختصر " ; لأن الكلام ههنا في تبيين الأقوى بالأضعف من جهة الدلالة ، ومسألة " المختصر " و " الروضة " ممثلة بتبيين القرآن بخبر الواحد ، وذلك أضعف في الرتبة لا في الدلالة ، ولا يلزم من ضعف الرتبة ضعف الدلالة ، لجواز أن يكون الأضعف رتبة أقوى دلالة ، كتخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ; لأنه أخص ; فيكون أدل .
فحاصل هذا أن الضعف إن كان في الدلالة ، لم يجز تبيين القوي بالضعيف ، لما سبق ، وإن كان في الرتبة ، جاز إذا كان أقوى دلالة ، ومن أجاز [ ص: 687 ] البيان بالأضعف ، أجازه بالمساوي ، ولا عكس ، ومن اشترط الرجحان في البيان ، لم يجزه بواحد منهما ، كما سبق والله أعلم .
فإنه متردد بين أنه من المن ، وهو الإنعام بالوصل ، أو الوعد الصادق به ، أو من التمني ، ثم بين متصلا بقوله :
إن الأماني والأحلام تضليل
[ ص: 688 ] فبين أن ذلك من التمني ، الذي هو كأحلام النائم ، لا من المن .
قوله : " وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع ، إلا على تكليف المحال " ، يعني تكليف ما لا يطاق ; فمن أجازه ، أجاز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ومن منعه ، منعه ، وصورته أن يقول : صلوا غدا ، ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون ، أو : آتوا الزكاة عند رأس الحول ، ثم لا يبين لهم عند رأس الحول كم يؤدون ، أو إلى من يؤدون ونحو ذلك ; لأنه تكليف ما لا يطاق ، والتفريع على امتناعه .
قوله : " وعن وقت الخطاب إلى وقتها جائز " ، أي : وتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عند القاضي ، وابن حامد ، وأكثر الشافعية ، وبعض الحنفية ، ومنع أبو بكر عبد العزيز ، وأبو الحسن التميمي ، والظاهرية ، والمعتزلة ، والصيرفي ، nindex.php?page=showalam&ids=11817وأبو إسحاق المروزي ، وذهب بعض الأصوليين إلى جواز تأخير بيان الأمر دون الخبر ، وذهب الجبائي وابنه ، nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار ، إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره .
وقال أبو الحسين البصري : ما ليس له ظاهر ، كالمجمل يجوز تأخير بيانه ، وما له ظاهر ، والمراد به غيره ، يجوز تأخير بيانه التفصيلي ، لا الإجمالي ، بأن يقول وقت الخطاب مثلا : هذا العموم مخصوص ، ولا يجب تفصيل أحكام تخصيصه ببيان غير المخصص ومقدار ما يخص منه .
وقال الكرخي وجماعة من الفقهاء : يجوز تأخير بيان المجمل ، دون [ ص: 689 ] غيره كالظاهر والعموم والنسخ ، ونحو ذلك من صور البيان . والصحيح جوازه مطلقا .
وصورته : أن يقول وقت الفجر مثلا : صلوا الظهر ، ثم يؤخر بيان أحكام الظهر إلى وقت الزوال ، أو يقول : حجوا في عشر ذي الحجة ، ثم يؤخر بيان أحكام الحج إلى دخول العشر .