[ ص: 690 ] لنا : أحكمت آياته ثم فصلت [ هود : 1 ] ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ، وثم للتراخي ، وأخر بيان بقرة بني إسرائيل ، وأن ابن نوح ليس من أهله ، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم ، بيان : ذوي القربى ، و آتوا الزكاة . و ولله على الناس ، وبين جبريل : أقيموا الصلاة بفعله في اليومين ، كل ذلك متأخر ، ولأن النسخ بيان زمني وهو متأخر ; فكذا هذا .
فرتب تفصيل الآيات على أحكامها ، وبيان القرآن على القراءة بـ " ثم " وهي للتراخي ، وذلك يقتضي جواز تأخير البيان . وقد أجمعنا على عدم جوازه عن وقت الحاجة ، فلم يبق إلا جوازه إليها وهو المطلوب .
الرابع : أن الله سبحانه ، أخر بيان أن ابن نوح ليس من أهله إلى وقت الحاجة ، وذلك أنه سبحانه قال لنوح عليه السلام : اصنع الفلك [ هود : 37 ] ، و احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك [ هود : 40 ] ، وهو عام في ابنه وغيره ، فلما أدرك ابن نوح الغرق ، خاطب نوح ربه عز وجل فيه بقوله : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق [ هود : 45 ] ، أي : وعدتني أن تنجي أهلي ، وإن ابني من أهلي ; فأنجه ; فقال الله سبحانه وتعالى : إنه ليس من أهلك [ هود : 46 ] ; فسكت نوح بعد أن سمع ما سمع خائفا مستغفرا ; فهذا تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
السادس : أن النسخ بيان في الزمان ، وهذا بيان في الأعيان ، ثم قد وجب التأخير في النسخ ; فليجز التأخير ههنا ، وهذا حجة على من فرق بين النسخ وغيره في تأخير البيان ; لأن تأخير النسخ يوهم ثبوت الحكم في زمن ، ليس ثابتا فيه في نفس الأمر ، وتأخير تخصيص العام يوهم ثبوت الحكم في صورة التخصيص ، وليس ثابتا فيها في نفس الأمر ، وكلاهما محذور . وقد التزم الخصم أحدهما ; فيلزمه التزام الآخر .
وتقريره : أن الخطاب بالمجمل بدون بيانه ; خطاب بما لا يفهم ، والخطاب بما لا يفهم عبث ، وتجهيل للسامع في الحال ، إذ لا يعلم ما المراد بالخطاب ، وفائدة الخطاب إنما هو إفادة المراد به ، فإذا لم يفد فائدته ، وجب أن يكون عبثا ممتنعا ، وصار ذلك كمخاطبة العربي بالعجمية ، ومخاطبة العجمي بالعربية ، وكما لو قال : أبجد هوز ، وقال : أردت به إيجاب الصلاة عليكم . أو قال : في خمس من الإبل شاة . وقال أردت بالإبل البقر ; فهذا كله وأشباهه غير جائز ، لعدم فائدته ; فكذلك الخطاب بالمجمل .
قوله : " قلنا : باطل " ، أي : ما ذكرتموه من أن الخطاب بما لا يفهم عبث ; فلا يجوز ، باطل بمتشابه القرآن ، كالحروف المقطعة وغيرها على ما سبق بيانه ; فإنه لا تفهم حقيقته ، وليس الخطاب به تجهيلا للسامع ، ولا عبثا من [ ص: 694 ] المتكلم ، فكما جاز الخطاب بالمتشابه ، بدون فهم حقيقته ، ولم يكن عبثا ، كذلك يجوز الخطاب بالمجمل ، وإن أخر بيان حقيقته ، ولا يكون عبثا .
قوله : " فإن منع ، فقد بيناه " ، أي : إن منع أن المتشابه لا تفهم حقيقته ; فقد سبق بيانه في موضعه ، وأن تأويله لا يعلمه إلا الله لا غير .
وإن قال الخصم : إن المتشابه " فائدته الانقياد الإيماني " ، أي : الانقياد للإيمان به ، كما قال الراسخون في العلم : آمنا به .
قلنا : وفائدة الخطاب بالمجمل " الانقياد التكليفي " ، أي : الانقياد للعزم على امتثال التكليف به ، فإذا قيل للمرأة : اعتدي بالأقراء ; عزمت على الاعتداد بأنها أمرت به ، وبين لها ، وإذا قيل : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم [ التوبة : 103 ] ، أفاد عزم كل ذي مال على إخراج الزكاة ، من جميع أنواع ماله ومقاديره ، حتى يرد التخصيص النوعي بسائمة الأنواع ، والنقدين ، والخارج من الأرض ، والتخصيص المقداري بشاة من أربعين ، وخمسة دراهم من مائتين ، ونحو ذلك ، فإن لم يعزم على ذلك ، عصى ، وهذا شبيه بما مر بالنسخ قبل امتثال الفعل ، وهذه فائدة عظيمة قد أفادها الخطاب بالمجمل ; فهي في بابها كفائدة الإيمان بالمتشابه في بابها .
قوله : " وإيجاب الصلاة " ، إلى آخره . هذا جواب ثان بالفرق ، والذي سبق جواب بالنقض .
وتقرير هذا الجواب : أن الفرق بين الخطاب بالمجمل ، والخطاب بما ذكرتموه ، من أبجد هوز ونحوه ، هو أن الخطاب بالمجمل يفيد ماهيات [ ص: 695 ] الأحكام ; فلا يضر تأخير بيان تفصيلها إلى وقت الحاجة إلى العمل بها ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ النور : 56 ] ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، لا تأكلوا الربا [ آل عمران : 130 ] ، ونحوه ، أفادنا وجوب الصلاة والزكاة ، وقطع يد السارق ، وتحريم الربا ، وإذا استفيدت ماهية الوجوب والحظر ، وجب اعتقادها ; فمن اعتقد وجوب الصلاة ، وتحريم الربا عليه وأنه ممتثل للأمر بهما ، عند بيان أحكامهما ; أثيب ، ومن لم يعتقد ذلك ، عصى ، وإذا جاء وقت العمل ، بين لنا أن الصلاة خمس ، وأن ركعاتها سبع عشرة ، وأن الفجر ركعتان ، والمغرب ثلاث ، وبقية الصلاة رباعية ، وأن التفاضل يحرم في كل مكيل أو موزون بجنسه ، وأنه إذا اختلف الجنسان ، جاز التفاضل يدا بيد ، وأشباه ذلك ، وهذا مما لا مانع منه ، شرعي ولا عقلي ، بخلاف ما ذكرتموه من خطاب العجمي بالعربية ، وإيجاب الصلاة بأبجد هوز ; فإنه لا يفيد فائدة أصلا ، وإرادة البقر من لفظ الإبل تغيير للوضع ، وقلب لحقائق اللغة ، والله تعالى أعلم .
ومن فرق بين الأمر والخبر ، احتج بأن الخبر والإجمال يوهم الكذب ; فيجب تداركه بالبيان ، بخلاف الأمر .
ويجاب عنه بأن في الأمر أيضا توهم تعلق الحكم بغير محله ، من الأعيان أو الزمان ، وهو قبيح كالكذب .
ومن فرق بين المجمل وغيره ، احتج بأن المجمل يوجب التوقف ، ولا [ ص: 696 ] يوهم ثبوت الحكم في غير محله ، بخلاف غيره ، كالعام مثلا ; فإنه ظاهر في إرادة جميع مدلوله بالحكم .
والتقدير أن بعض مدلوله غير مراد به ; فيكون إيهاما للباطل ; فيجب تداركه بالبيان ، نفيا لهذا الإيهام .
ويجاب عنه بنحو الجواب عن الأول ، وهو أن تأخير بيان المجمل يوهم إرادة كل واحد من محتمليه ، أو محتملاته ، مع أن جميعها غير مراد ، وهو إيهام للباطل ; فهو كإيهام العموم التعميم ; وإن ظهر بينهما تفاوت في قوة الإيهام وضعفه ، غير أن أصل الإيهام موجود في الصورتين ، وهو كاف في الجمع بينهما في الحكم .
فائدتان :
إحداهما : وقع ذكر ابن نوح في أدلة هذه المسألة . وقد اختلف العلماء فيه ، هل كان ابنه لصلبه ، أو لم يكن ابنه ، بل كان للزنى ; فذهب إلى الأول الحسن ، nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين ، nindex.php?page=showalam&ids=16531وعبيد بن عمير ; قالوا : وإنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالولد للفراش ، من أجل ابن نوح ، وحلف الحسن : إنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك : إنه ابنه ، وللنزاع مأخذان :
أحدهما : أن الخيانة في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما [ التحريم : 10 ] ، هل هي بما عدا الزنا ، أو بالزنا وغيره ; فقال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : خانتاهما بالكفر ; فكانت امرأة نوح عليه السلام تقول للناس : إنه [ ص: 697 ] مجنون ، وكانت امرأة لوط عليه السلام إذا ورد عليه ضيف ، تخبر به قومها ، وتغريهم به .
قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : وما بغت امرأة نبي قط ، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا ، يعني الزنا .
وقال الحسن : خانتاهما بالزنا وغيره . فمن قال بالأول قال : هو ابنه ، [ ص: 698 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 699 ] ومن قال بالثاني ، قال : ليس بابنه ; لأنه كان من خيانتها بالزنا .
قلت : وهذا ضعيف ، أما الأول ; فلأن الخيانة المنسوبة إليها في الآية مطلقة ، وقد أجمعنا على تحقيقها بالكفر ونحوه من الأذى ، وذلك واف بمطلق الآية ، يبقى خصوص الزنا ، لا دليل عليه .
وأما ثانيا : فلأن تقدير أنها خائنة بالزنا ; لكن ذلك أيضا مطلق ، يكفي في تحقيقه زنا مرة ; فمن أين لنا أن ذلك الولد من تلك المرة ، ولو فرضنا أنها زنت مرارا ، لم يكف ذلك في تحقق أنه من تلك المرار ، ولا في ظهور ذلك فضعف هذا المأخذ .
المأخذ الثاني : أن قوله سبحانه وتعالى : ونادى نوح ابنه وكان في [ ص: 700 ] معزل يا بني اركب معنا [ هود : 42 ] ، وقال : إن ابني من أهلي ، يدل على أنه ابنه ، لإضافته إليه : ابني ، وقوله عز وجل ، وعلى هذا عولعكرمة والضحاك ، ومن تابعهما ، وعول الحسن ومن تابعه ، على قوله عز وجل : إنه ليس من أهلك [ هود : 46 ] ، وحقيقته تقتضي نفي النسب .
قلت : وهو أيضا ضعيف ; لأن الأهلية تستعمل في اللسان تارة في النسب ، وتارة في الدين وغيره ، كما روي عنnindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : هو ابنه ، غير أنه قد خالفه في العمل والنية ; فهي مجمل ، والتصريح بالبنوة ، وإضافتها لنوح عليه السلام مبين ; فيكون مقدما ، ويحتمل أن المراد : ليس من أهلك الذي وعدتك أن أنجيهم ، كما روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كنت عند الحسن فقال : ونادى نوح ابنه وتقول : ليس بابنه ؟ قال : أرأيت قوله : ليس من أهلك ؟ قال : قلت ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك ، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه ، قال : إن أهل الكتاب يكذبون .
واحتج الطنزي ، بالنون والزاي المعجمة ، على ضعف قول الحسن بوجوه :
أحدها : قوله تعالى : ونادى نوح ابنه فكيف يخبر الله عز وجل عما لم يكن ؟
الثاني : أن نوحا عاش عمر ابنه ، وهو يقول : ابني .
[ ص: 701 ] الثالث : أنه لم يبتل نبي بهذه البلوى ، وقد نزه الله سبحانه وتعالى رسله عما هو دون هذه الرذيلة ، وبهذا احتجت عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حديث الإفك حيث قالت : هبك شككت في ، أشككت في نفسك .
قلت : هذا معنى كلامه ، وقد أشرنا إليه قبل ، وليست هذه الوجوه قواطع في بطلان قول الحسن ، إذ له أن يجيب :
عن الأول ; بأن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نوح عليه السلام إضافة فراش ، لا إضافة ولادة .
وعن الثاني بذلك أو بأن نوحا لم يعلم أنه ليس منه ، ولم يطلعه الله عز وجل على ذلك لحكمة ما .
وعن الثالث بأنه لا يلزم من صيانة منصب غالب الأنبياء عن هذه البلوى ; صيانة منصب نوح عنها ، لجواز أن يخصه الله بذلك ، ابتلاء وامتحانا ، أو لشقاء تلك المرأة ، كما خص امرأة لوط بالقيادة والسعاية في اللواط ، ولم يكن ذلك في امرأة نبي غيره .
قلت : وثم مأخذ آخر للخلاف ، وهو قوله عز وجل لنوح عليه السلام : فلا تسألن ما ليس لك به علم [ هود : 46 ] ، فإن فيه إيماء إلى ما قاله الحسن ، إذ لو كانت علة إهلاكه الكفر ، لم يصح ذلك ، إذ نوح قد كان يعلم كفر ابنه ، وإنما الذي لم يعلمه هو كونه لغير صلبه .
ويجاب عن هذا : بأن المراد أنه سبحانه وتعالى سبق في علمه أنه من [ ص: 702 ] أهل النار ، ونوح لم يعلم ذلك .
قلت : التحقيق : أنه لا قاطع في المسألة بنفي ولا إثبات ، ولا نزاع في احتمال ما قاله الحسن ، وانه ليس بمحال عقلا .
أما من حيث الظهور ; فالظاهر مع من قال : إنه ابنه لصلبه ، وقد يجمع بين القولين بأنه ابنه للفراش دون الصلب ، وانبنى على النزاع المذكور الخلاف في القراءة في قوله عز وجل : إنه عمل غير صالح [ هود : 46 ] فقرأ الحسن ومن تابعه : إنه عمل غير صالح بالرفع ، يعني : ابن نوح عمل غير صالح ؛ لأنه من الزنا وهو عمل غير صالح ، وهي قراءة السبعة إلا nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ; فإنه قرأ : عمل غير صالح على الفعل الماضي ، يعني عمل الكفر ، لا أنه من زنا ، والله تعالى أعلم .
فهذه الآيات الثلاث : أدخل في البيان عن مواقيت الصلاة ، من الآيات الثلاث الأول ، وأبين من ذلك كله ما وردت به السنة من أحاديث المواقيت ، ، وأبين من أحاديث السنة ما فصله الفقهاء من ذلك في كتب الفقه ، وإلى هنا انتهى البيان .
وهكذا في كثير من الأحكام ; السنة أبين من الكتاب ; لأنها موضوعة لبيانه ، وكلام الفقهاء أبين من السنة ; لأنه موضوع لتفصيل أحكام الكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم .