فحوى اللفظ : ما أفاده لا من صيغته ، ويسمى إشارة ، وإيماء ، ولحنا ، وتتفاوت مراتبه ، وهو على أضرب :
الأول : المقتضى ، وهو المضمر الضروري لصدق المتكلم ، نحو : لا عمل إلا بنية أي : صحيح . أو لوجود الحكم شرعا ، نحو : أو على سفر فعدة أي : فأفطر ، و : أعتق عبدك عني ، في اقتضائه ملك القائل له . أو عقلا ، نحو : حرمت عليكم أمهاتكم في إضمار الوطء واسأل القرية في إضمار الأهل .
والثاني يسمى فحوى ومفهوما ، كفهم عدم وجوب الزكاة في المعلوفة من الحديث ، وتحريم الضرب من الآية ، وهذه الخاتمة مذكورة لبيان ذلك .
والمعقول : القياس ; لأنه يستفاد بواسطة النظر العقلي .
والثابت بالمنقول والمعقول وليس واحدا منهما ، هو الإجماع ، كما سنذكر إن شاء الله تعالى في إثباته .
وقولنا : هذا الإجماع منقول تواترا أو آحادا مجاز ; لأن حقيقة الإجماع الاتفاق ، وهو لا ينقل ، إنما المنقول هو الإخبار بوجوده ، بخلاف النصوص ، فإن نفسها هي المنقول ، والقياس نفسه هو المعقول . إذا عرفت هذا ، عدنا إلى حل لفظ الكتاب .
فقوله : " فحوى اللفظ " هو : " ما أفاده " . جنس ، يتناول ما أفاده نطقا وغيره .
وبقوله : " لا من صيغته " يخرج المنطوق ; لأنه مستفاد من الصيغة ، كما [ ص: 706 ] ذكر في حديث السائمة ، وآية التأفيف ; فبقي ما يستفاد لا من الصيغة ، وهو المسمى فحوى - بالحاء المهملة - وبعض من لا يعلم يقولها بالجيم ، وهو تصحيف قبيح ، والفحوى في اللغة : معنى القول . قال الجوهري : فحوى القول معناه ولحنه ، يقال : عرفت ذلك في فحوى كلامه وفحواء كلامه مقصورا وممدودا ، وإنه ليفحي بكلامه إلى كذا وكذا - قلت أنا : معناه : يشير - قال : والفحا - مقصور - : أبزار القدر بكسر الفاء ، والفتح أكثر ، والجمع أفحاء ، وفي الحديث : من أكل فحا أرض ، لم يضره ماؤها يعني البصل ، يقال : فح قدرك تفحية .
قلت : هذا الذي ذكره الجوهري في هذه المادة ، وذكر غيره أن الفحوى مأخوذ من الفحا ; لأن فحوى الكلام تجاوز لفظه أو موضوعه إلى الذهن ، مجاوزة رائحة الفحا إلى الشم .
[ ص: 707 ] قوله : " ويسمى إشارة ، وإيماء ، ولحنا " ، يعني فحوى الكلام المستفاد لا من صيغته : يسمى بكل واحد من هذه الأسماء ، ولك الخيرة في تسميته بأيها شئت .
قلت : وهذا صحيح ; لأن هذه المعاني كلها يجمعها إفهام المراد من غير تصريح ، والفحوى قد سبق الكلام فيه ، والإشارة : إيماء . قال الجوهري : أشار إليه باليد : أومأ إليه . وقال في موضع آخر : أومأ إليه : أشار .
قلت : غير أنه يشبه أن الإيماء أعم من الإشارة ، بأن تكون الإشارة مختصة باليد ، والإيماء إشارة باليد وغيرها ; فكل إشارة إيماء ، وليس كل إيماء إشارة .
وقال أبو زيد : لحنت له - بالفتح - ألحن لحنا ، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ، ويخفى على غيره ، ولحنه هو عني - بالكسر - يلحنه لحنا ، أي : فهمه ، وألحنته إياه . ولاحنت الناس : فاطنتهم .
[ ص: 708 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=16869مالك بن أسماء الفزاري :
وحديث ألذه هو مما ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق رائع وتلحن أحيا نا ، وخير الحديث ما كان لحنا
يريد : أنها تتكلم بشيء ، وهي تريد غيره ، وتعرض في حديثها ; فتزيله عن جهته ، من فطنتها وذكائها . كما قال تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول [ محمد : 30 ] ، أي : في فحواه ومعناه . آخر كلام الجوهري .
قلت : فقد تبين اتفاق معاني هذه الألفاظ .
وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي تقسيما يقتضي الفرق بين بعضها ; فقال : وأما دلالة غير المنظوم ، وهو ما دلالته غير صريحة ; فلا يخلو ; إما أن يكون مدلوله [ ص: 709 ] مقصودا للمتكلم ، أو لا .
قلت : فقد فرق بين الإيماء والإشارة ، والأمر قريب ; لأن غالب هذه المسميات يجمعها ما ذكرناه أولا ، من أنها مفهومة من غير التصريح ; فهي من باب دلالة الالتزام .
قوله : " وتتفاوت مراتبه " ، أي : مراتب اللحن ، وفحوى الخطاب ; لأنا قد بينا أنه إفهام الشيء من غير تصريح ، وإفهام الشيء من غير تصريح ، قد يكون بعضه أدل من بعض ، وألزم لمدلول الصريح من بعض .
قوله : " وهو " ، يعني لحن الخطاب وفحواه ، " على أضرب : الأول : المقتضى " - بفتح الضاد - أي : الذي يقتضيه صحة الكلام ويطلبه ، " وهو المضمر الضروري " ، أي : الذي تدعو الضرورة إلى إضماره ، وتقديره في اللفظ ، والضرورة تدعو إلى إضماره لوجوه :
أحدها : " صدق المتكلم ، نحو : لا عمل إلا بنية أي " : لا عمل " صحيح " إلا بنية ، إذ لولا ذلك ، لم يكن ذلك صدقا ; لأن صورة الأعمال كلها ، كالصلاة ، والصوم ، وسائر العبادات يمكن وجودها بلا نية ، [ ص: 710 ] فكان إضمار الصحة من ضرورة صدق المتكلم .
الوجه الثاني : مما تدعو الضرورة إلى الإضمار لأجله ; " وجود الحكم شرعا نحو " قوله سبحانه وتعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] تقديره : أو على سفر ; فأفطر ; فعليه صوم عدة من أيام أخر ; لأن قضاء الصوم على المسافر ، إنما يجب إذا أفطر في سفره ، أما إذا صام في سفره ; فلا موجب للقضاء . ودليل ذلك ظاهر لغة وشرعا ، خلافا لما يحكى عن أهل الظاهر من أن فرض المسافر صوم عدة أيام أخر ; سواء صام في سفره أو أفطر ، وهو من جمودهم المعروف . كذلك قوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت [ البقرة : 60 ] ، أي : فضربه ; فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ; لأن الضرب سبب الانفجار ; فلا بد من تقديره . وقوله سبحانه وتعالى : فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا [ الفرقان : 36 ] ، أي : فقلنا : اذهبا ; فذهبا إلى القوم ; فكذبوهما ; فاستحقوا التدمير ; فدمرناهم . لا بد من تقدير هذا كله .
ومن ذلك قول القائل لغيره : " أعتق عبدك عني " وعلي ثمنه ، " في اقتضائه ملك القائل له " أي : للعبد ; لأنا قلنا : إن العبد إذا أعتقه المقول له ، يعتق عن القائل ، والقاعدة : أنه لا يعتق عن الإنسان إلا ما كان ملكا له ; فوجب ضرورة تصحيح هذا العتق على القاعدة المذكورة أن يقدر دخول العبد في ملك القائل ، قبل عتقه بزمن ما ، ليكون العتق متفرعا على ملكه ، ومبنيا عليه .
الوجه الثالث مما تدعو الضرورة إلى الإضمار لأجله : وجود الحكم " عقلا ، نحو " قوله سبحانه وتعالى : حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء : 23 ] ، [ ص: 711 ] فإن العقل يأبى إضافة التحريم إلى الأعيان ; فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به التحريم ، وهو الوطء ، كما سبق في المجمل والمبين ، وكذلك نظائره هناك ، وكقوله تعالى : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، فإن السؤال إنما يصح عقلا مما يصح منه الجواب ، والقرية التي هي الجدران والأبنية لا يصح منها ذلك ; فوجب ضرورة تصحيح الخبر عقلا ، إضمار ما يصح سؤاله وجوابه ، وهو أهل القرية . ومن ذلك قول السيد لعبده : اصعد السطح ، يقتضي بالضرورة إضمار نصب السلم .
أولها : دلالة الاقتضاء : وهو ما كان المدلول فيه مضمرا ; إما لضرورة صدق المتكلم ، كقوله عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022023رفع عن أمتي الخطأ ، أي : حكمه . أو لصحة الملفوظ به ; إما عقلا نحو : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، أو شرعا ، نحو : أعتق عبدك عني على ألف ، إذ يستدعي إضمار انتقال الملك إليه ، لتوقف العتق عنه شرعا عليه .
ورابعها : دلالة المفهوم : وذكر فيه نحو ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قوله : " الثاني " ، أي : الضرب الثاني من فحوى الخطاب - " تعليل الحكم بما اقترن به من الوصف المناسب ، نحو " قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 39 ] ، الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما [ النور : 2 ] ، أي : لأجل السرقة والزنا . وكذا قوله عز وجل : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ الانفطار : 13 ، 14 ] ، أي : لأجل البر والفجور ، فإن المعقول من هذا الكلام أن السرقة علة القطع ، والزنا علة الجلد ، والبر والفجور سبب النعيم والجحيم ، " لميل العقلاء " ، أي : لأن العقلاء تقبل عقولهم ، ويميلون " إلى " قول القائل : " أكرم العلماء ، وأهن الجهال ، ونفورهم من " عكس ذلك ، نحو : أهن العلماء ، وأكرم الجهال ، وما ذاك إلا لأنهم في الأول فهموا أن العلم سبب الإكرام ، والجهل سبب الإهانة ، وهو ترتيب حكم على سبب مناسب له عقلا ; فلذلك قبلوه ، ومالوا إليه .
وفي الثاني فهموا تعليل الإهانة بالعلم ، والإكرام بالجهل ، وهو ترتيب حكم على سبب غير مناسب ; فلذلك أنكرته عقولهم ، ونفروا منه ، كما ينفرون من قول القائل : من أحسن إليك ; فأهنه ، ومن أساء إليك ; فأكرمه .
[ ص: 713 ] وإذا ثبت بما ذكرناه أن هذه الأحكام معللة بتلك الأسباب ، كالسرقة ، والزنا ، والبر ، والفجور ; فذلك ليس مفهوما لنا من صريح النطق ونصه ، بل من فحوى الكلام ومعناه ; فبان بذلك أن فهم تعليل الحكم بالوصف المناسب المقترن به من قبيل الفحوى ولحن الخطاب .