" وعن " في قوله : عن أدلتها ، متعلقة بمحذوف تقديره : الفرعية الصادرة أو الحاصلة عن أدلتها التفصيلية ، احترازا من الحاصلة عن أدلة إجمالية ، كأصول الفقه ، نحو قولنا : الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة ، وكالخلاف ، نحو : ثبت بالمقتضي ، وامتنع بالنافي .
قوله : " وعن في قوله : عن أدلتها " إلخ ، يعني أن " عن " المذكورة في قولنا : الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، لا بد لها من فعل أو معنى فعل تتعلق به ، لأن حروف الجر إنما وضعت في الكلام لتجر معاني الأفعال إلى الأسماء ، نحو : ذهبت إلى زيد ، وجئت من عند عمرو ، فإلى جرت معنى ذهابك إلى زيد ، بمعنى أنها أفادت أن ذهابك كان نحوه ، وأنت متوجه شطره ، ومن جرت معنى ذهابك إلى عمرو ، بمعنى أنها أفادت أن مجيئك كان من جهته منصرفا إلى غيرها ، ولأجل ذلك سميت حروف الجر ، ومعنى تعلق الحرف بالفعل : هو أن لا يصح معنى الكلام وينتظم إلا باتصاله به ، ولو قدر اتصاله بغيره ، لم يصح ، كقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . بالبينات والزبر [ النحل : 43 - 44 ] ، فإن قوله : بالبينات ، ليس متعلقا بتعلمون ، ولا بقوله : فاسألوا ، بل بأرسلنا ، أي أرسلنا قبلك رجالا بالبينات والزبر ، إذ لا ينتظم أن يقال : بالزبر ، ولا اسألوا بالزبر ، فمتى كان في الكلام فعل موجود يصلح أن يتعلق حرف الجر به ، وجب تعلقه به ، وإن لم يكن ، قدر له فعل أو معناه تعلق به على حسب ما يقتضيه الكلام ، وليس فيما نحن فيه فعل يصلح أن تتعلق " عن " به ولا معناه ، لأن الأحكام الشرعية والفرعية أسماء محضة ، ومعنى الفعل فيها [ ص: 141 ] خامل خفي ، فوجب تقدير ما تتعلق به عن ، لئلا يبقى سائبا بغير متعلق ، وهو غير جائز في اللغة ، فصار تقديره كما ذكر ، الفقه : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية الصادرة أو الحاصلة عن أدلتها ، لأنا نعلم بدلالة العقل أن الأحكام تصدر وتحصل عن الأدلة ، عند نظر المستدل فيها ، طالبا ليعرف الأحكام منها ، فقدرنا لانتظام الكلام ما دل عليه سياقه ، وهذه قاعدة كلية في جميع الكلام من الكتاب والسنة والشعر وغيره ، وهو أن الكلام إذا تضمن حذفا أو إضمارا ، قدر فيه ما دل عليه السياق ، وموضع بسطه بأمثلته " كتاب المجاز " لابن عبد السلام .
قوله : " عن أدلتها التفصيلية ، احترازا من الأحكام الحاصلة عن أدلة إجمالية " . قد علم معنى التفصيل والإجمال مما سبق ، وسيأتي في باب المجمل والمبين إن شاء الله تعالى ، فلو قال : الفقه : هو العلم بالأحكام الفرعية الصادرة عن أدلتها بالاستدلال ، لدخل فيه ما كان من الأحكام الشرعية عن أدلة إجمالية بالنسبة إلى أدلة الفقه كقولنا : الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة ، لأنها أحكام شرعية ، حاصلة عن الأدلة بالاستدلال ، ومع ذلك ليست فقها ، بل هي أصول فقه .
ولقائل أن يقول : هذا لا يصح ، لأن بقوله : الشرعية الفرعية ، خرجت هذه الأحكام عن أن يتناولها الحد ، لأنها وإن كانت أحكاما شرعية من جهة أن الشرع أوجب تعلمها ، ليعلم ما يبنى عليها من مسائل الفقه ، لكنها ليست فرعية ، بل هي أصولية .
وقد يجاب عنه بأن أحكام أصول الفقه هي أصولية من وجه ، فروعية من وجه ، [ ص: 142 ] وذلك لأن العلم الشرعي المقصود لذاته ، إما متعلق بالعقائد القلبية ، وهو علم أصول الدين ، أو متعلق بالأفعال البدنية ، وهو علم الفقه ، ووقع علم أصول الفقه واسطة بينهما ، فهو يستمد من أصول الدين ، ويمد فروع الفقه ، ولذلك كان من مواده علم الكلام ، وهو أصول الدين ، وتصور فروع الأحكام لتمكن الحكم عليها بنفي أو إثبات عند ضرب الأمثلة ، وحينئذ لو لم يقل : عن أدلتها التفصيلية ، لدخلت الأحكام المذكورة من أصول الفقه ، لا من جهة كونها أصولا للفقه ، بل من جهة كونها فروعا لأصول الدين ، فبالتفصيلية خرجت عن الدخول في حد الفقه من كل وجه ، فهذا هو الجواب عن السؤال المذكور ، وهو قوي .
وأحسب أني وهمت في قولي : " الحاصلة عن أدلتها التفصيلية " احترازا عما ذكرت ، من أن الإجماع ونحوه حجة ، لأن مسائل كل علم وأحكامه ، حاصلة عن أدلة تفصيلية بالنسبة إلى ذلك العلم ، فيكون الإجماع حجة حكما حصل عن دليل تفصيلي بالنسبة إلى أصول الفقه ، وسيأتي مثال هذا عن قريب إن شاء الله تعالى .
والمثال الصحيح لما حصل من الأحكام عن أدلة إجمالية ، ووقع الاحتراز بالتفصيلية عنه ، هو ما يستعمل في فن الخلاف ، نحو ثبت الحكم بالمقتضي وانتفى بوجود النافي ، فإن هذه قواعد كلية إجمالية تستعمل في غالب الأحكام ، إذ يقال مثلا : وجوب النية في الطهارة ، حكم ثبت بالمقتضي ، وهو تمييز العبادة عن العادة ، ويقول الحنفي : عدم وجوبه والاقتصار على مسنونيته ، حكم ثبت بالمقتضي ، وهو أن الوضوء مفتاح الصلاة ، وذلك متحقق بدون النية . [ ص: 143 ]
ويقال : سقوط القصاص عن المسلم القاتل للذمي ، حكم ثبت لوجود مقتضيه ، وهو شرف المسلم وصيانته ، عن أن يجعل الكافر كفئا له ، ويقال : قتل المسلم بالذمي ، حكم انتفى بوجود نافيه ، وهو تحقق التفاوت بينهما ، أو بانتفاء شرطه ، وهو المكافأة ، ويقول الحنفي : هو حكم ثبت بوجود مقتضيه ، وهو عصمة الإسلام المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : إذا أدوا الجزية ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا .
وغالب مسائل الفروع يمكن إثباتها بهذين الطريقين ونحوهما ، فهي أدلة إجمالية بالنسبة إلى كل مسألة .
واعلم أن المطلوب ، إما إثبات الحكم ، فهو بالدليل المثبت ، أو نفيه فهو بالدليل النافي ، أو بانتفاء الدليل المثبت ، أو بوجود المانع ، أو بانتفاء الشرط ، فهذه أربع قواعد ضابطة لمجاري الأحكام على تعدد جزئياتها وكثرة مسائلها .