ويرد على الأول أنها ظواهر ، وعلى الثاني منع التواتر بدعوى الفرق بينه وبين ما شبه به ، ثم الاستدلال بعمومه وهو ظني إذ يحتمل : لا تجتمع على ضلالة الكفر ، والأجود أنه مقدم على القاطع إجماعا ، فلو لم يكن قاطعا لتعارض الإجماعان ، أعني الإجماع على تقديمه ، والإجماع على أن لا يقدم على القاطع غيره ، وللنظام منع الأولى .
قوله : " وهو حجة قاطعة ، خلافا للنظام في آخرين " يعني : الإجماع حجة قاطعة ، يجب العمل به عند الجمهور ، خلافا للنظام بتشديد الظاء والشيعة والخوارج ، قالوا : ليس بحجة .
قال النظام : الإجماع كل قول قامت حجته ، ونسب في ذلك إلى أنه يدفع به شناعة قوله : إن الإجماع ليس بحجة .
[ ص: 15 ] قوله : " لنا " أي : على أن الإجماع حجة " وجهان " أي : طريقان أو مسلكان : " الأول " : من وجوه :
قوله : " وهو دوري " أي : الاستدلال بهذه الآية وغيرها من ظواهر الشرع ، على أن الإجماع حجة دوري ، أي : يلزم منه الدور ، لأن هذه النصوص ليست قاطعة في الدلالة على ذلك ، وإنما دلالتها ظاهرة ، لكن الظواهر إنما ثبت كونها حجة بالإجماع ، فلو أثبتنا كون الإجماع حجة بالظواهر ، لزم الدور .
قلت : يمكن منع لزوم الدور هاهنا بأن يقال : لا نسلم أن الظواهر إنما كانت حجة بالإجماع ، بل بالوضع والعرف اللغوي ، فإن العرب كانت تستعمل الظواهر في كلامها ، وتتفاهم بها مقاصدها ، ولم يكن هناك إجماع ، ثم وردت أدلة الشرع من الكتاب والسنة على لسان العرب ، فسلكنا في الاحتجاج بظواهرها نهجهم في ذلك وحينئذ لا يلزم الدور المذكور .
[ ص: 16 ] " أي : عدولا " خيارا ، كذلك قال أئمة أهل اللغة والتفسير :
قال الجوهري : الوسط من كل شيء : أعدله ، وقال تعالى : جعلناكم أمة وسطا أي : عدلا ، ويقال أيضا : شيء وسط ، أي : بين الجيد والرديء وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : أمة وسطا قال : عدولا .
قال أهل المعاني : قيل للعدل : وسط ، لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط في أخلاقه .
وقيل : شبه بوسط الشيء ، لأنه محفوظ مما يلحق الأطراف من الآفات ، والدليل على أن المراد بالوسط العدول ، قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس [ البقرة : 143 ] أي : لتشهدوا يوم القيامة على الأمم أن أنبياءهم بلغوهم أمر الله تعالى بالتوحيد وأحكامه ، فدل على أن المراد بالوسط من تقبل شهادته ، خصوصا في ذلك اليوم ، على ذلك الخلق العظيم : وهو العدل وإذا ثبت أن الوسط في الآية الكريمة هو العدل ، فالاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : أن وصفهم بالعدالة في سياق المدح ، وإنما يحسن المدح إذا كانوا على الصواب في أقوالهم وأفعالهم ، وذلك يوجب أن ما اتفقوا عليه يكون صوابا .
الوجه الثاني : أن الوصف بالعدالة ، إما لكل واحد منهم أو [ ص: 17 ] لمجموعهم ، والأول باطل قطعا ، لوجود آحاد الفساق فيهم كثيرا ، فتعين الثاني ، وهو أن الوصف بالعدالة لمجموعهم ، وذلك يقتضي أن ما يقولونه مجتمعين عليه حق وصواب ، لأن قائل غير الحق والصواب يكون كاذبا ، والكاذب لا يكون عدلا .
ويرد على الوجهين : أن الصواب والحق ؛ تارة يكون عن إخبار ، فهو الذي يلزم وجوده في الأمة الموصوفة بالعدالة ، ويدل عليه سياق الآية الشريفة ، وهو كونهم جعلوا وسطا ليشهدوا على الناس ، والشهادة إخبار ، وتارة يكون الصواب والحق عن نظر واجتهاد ، وليس بلازم من الوصف بالعدالة ، والكلام هاهنا في الصواب النظري ، لا في الصواب الإخباري .
أحدهما : ما سبق من أن هذا مدح لهم ، وإنما يحسن المدح إذا كانوا على الصواب ، والصواب يجب اتباعه . ويرد عليه ما سبق ، من أن الصواب النظري لا يلزم من ذلك .
الوجه الثاني : أنه تعالى أخبر أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، واللام فيهما للاستغراق والعموم ، أي : يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر ، وذلك يقتضي أن لا يفوتهم حق ولا صواب ، لا يأمرون به ، ولا يفوتهم باطل ولا خطأ ، لا ينهون عنه ، وهو يدل على أن كل ما اتفقوا [ ص: 18 ] عليه ، وتآمروا به حق وصواب ، وكل ما اتفقوا على نفيه ، وتناهوا عنه باطل وخطأ ، وذلك يفيد أن الحق والصواب من لوازم إجماعهم ، وهو المطلوب ويرد على هذا أن قوله تعالى : ( تأمرون ) و ( تنهون ) مطلق لا عموم له ، فيصدق بالأمر والنهي مرة واحدة ، وأن اللام في المعروف والمنكر لتعريف الماهية ، أو لبعض الجنس ، لاستحالة نهيهم عن كل منكر في الوجود بالضرورة ، وأنها ليست للاستغراق ، فلا يلزم ما ذكر .
قوله : " والعدل " إلى آخره هذا بيان كيفية الاستدلال بقوله تعالى :
جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] وتقريره : أنه - سبحانه وتعالى - أخبر أن الأمة عدول ، و " العدل " لا يصدر عنه إلا حق فالإجماع حق " لأنه صادر عنهم " لا سيما " إذا كان العدل عدلا " بتعديل المعصوم " فيكون الحق لازما له ، لا ينفك عن تصرفه . وقد بينا ما يرد عليه من أن الحق النظري لا يلزم ضرورة عن العدل ، بل الحق الإخباري هو المترتب على العدالة .
وتقريره : أن الإجماع صادر عن مجموع الأمة ، والأمة معصومة والمعصوم لا يصدر عنه إلا الصواب .
[ ص: 19 ] أما أن الإجماع صادر عن مجموع الأمة ، فلما سبق في حده ، ولأن الفرض ذلك ، ونعني بمجموع الأمة مجموع مجتهديها ، لأنهم قائمون مقام جميع الأمة ، إذ إليهم إبرام أمورهم ونقضها ، وحلها وعقدها ، وسيأتي الدليل إن شاء الله تعالى على أن غير المجتهد لا يعتبر في الإجماع ، وإن شاح الخصم في ذلك ؛ التزمنا قول القاضي أبي بكر في اعتبار مجموع الأمة المجتهدين وغيرهم ، ولا يضرنا ذلك ، ويلزم الخصم كون الإجماع حجة .
وأما أن المعصوم لا يصدر عنه إلا الصواب ، فلأن ذلك شأن المعصوم ومفهومه في عرف الشرع ، فثبت بذلك أن الإجماع الصادر عن الأمة المعصومة صواب ، والصواب يجب اتباعه ، وهو المراد بكونه حجة .
قوله : " ويرد على الأول " إلى آخره ، هذا اعتراض على المسلكين المستدل بهما على أن الإجماع حجة .
أما الأول : وهو الاستدلال بالآيات الثلاث ، فيرد عليه " أنها ظواهر " لا قواطع في الدلالة ، فلا يثبت بها الإجماع القاطع ، لأن الضعيف لا يصلح [ ص: 22 ] مستندا للقوي ، وهذا عين السؤال الدوري الذي سبق إيراده وجوابه .
وأما الثاني : وهو الاستدلال بالأخبار الدالة على عصمة الأمة ، فيرد عليه منع تواترها التواتر المعنوي بدعوى الفرق بينها وبين ما شبهت به ، من شجاعة علي ، وسخاء حاتم ، وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا الأخبار المدعى أنها تدل على عصمة الأمة ، والأخبار الدالة على شجاعة علي - رضي الله عنه - وسخاء حاتم ، وجدناها يعني العقول لا تصدق بالأول كتصديقها بالثاني ، بل تصديقها بالثاني أقوى بكثير جدا ، ولو كانت متواترة ، لساوت أخبار علي وحاتم في قوة التصديق بها ، لأن التواتر يفيد العلم كما سبق ، والإدراك العلمي لا يتفاوت بالقوة والضعف ، ألا ترى أن العقل جازم بوجود مكة شرفها الله تعالى ، ومصر ، وبغداد ، والبصرة ، وغيرها من الأماكن المتواترة جزما متساويا ، لتواترها ، بخلاف البصرة وضيعة من ضياع العراق ، يقال لها : صرصرا ، وغيرها من الضياع ، فإن الجزم بهما غير متساو ، لعدم تساويهما في التواتر ، فإن صرصرا ، لم يقع الجزم بها إلا عند من عاينها ، أو قرب منها ، فتواترت عنده ، بخلاف البصرة; فإنه يصدق بها من قرب ومن بعد ، فإن وجدت في نفسك تفاوتا بين التصديق بمكة وغيرها من البلاد; وأنه بمكة أشد تصديقا; فليس ذلك راجعا إلى حقيقة الجزم بها وبغيرها ، وإنما هو راجع إلى طرق الإخبار بمكة ، في كل عام ، على لسان [ ص: 23 ] من يقصدها من وفود الحاج; أما الجزم ، فحقيقته لا تتغير ، ولا تتفاوت .
وإذا ثبت هذا ، ووجدنا الفرق بين أخبار علي وحاتم ، والأخبار المذكورة في عصمة الأمة ; دل على أنها ليست متواترة ، لأن أخبار علي وحاتم متواترة وهذه الأخبار دونها في جزم العقل بموجبها ، وما دون المتواتر لا يكون متواترا .
سلمنا أن الأخبار المذكورة متواترة ، لكن الاستدلال بعمومها وهو يعني العموم ظني لا قاطع ، فيحتمل أن المراد منها : لا تجتمع أمتي على ضلالة الكفر ، ولا يلزم من ذلك عصمتها من الخطأ في الاجتهاد ، لأن الكفر أخص من الخطأ ، ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم ، مع أنه إذا اتجه حمل الضلالة على الكفر ، حمل عليه لفظ الخطأ في قوله : لا تجتمع أمتي على الخطأ وجعل الكفر مبينا له . وقوله : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022313ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن حديث ليس في دواوين السنة المعتمد عليها ، وإنما يروى . وبقية الأحاديث إنما تدل على لزوم الجماعة ، لا لأن الصواب الاجتهادي لازم لها ، بل لأن ذلك أوقع للهيبة في نفس عدو الإسلام ، وأجدر باجتماع الكلمة ، والاحتراز من كيد الشيطان ، ولهذا جاء في حديث آخر : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022323عليكم بالجماعة ، فإن الذئب يأكل القاصية شبه الشيطان بالذئب ، والمنفرد عن الجماعة بالشاة المتخلفة عن [ ص: 24 ] جماعة الغنم ، فيحكم الشيطان على المنفرد حكم الذئب على القاصية .
والأول باطل ، لأن هذا الحديث قد دل على خطأ أكثرها ، وهو ثنتان وسبعون من ثلاث وسبعين فرقة في النار ، ومن يستحق النار لا يكون معصوما ، بل لا يكون صالحا ، فضلا عن معصوم .
[ ص: 25 ] والثاني أيضا باطل ، لأن مجتهدي ذلك البعض ليسوا جميع مجتهدي الأمة ; بل هم مجتهدو جزء قليل من الأمة ، إذ كل فرقة من الثنتين وسبعين فرقة فيها مجتهدون ، فدل الحديث على أن جميع الفرق من الأمة . وحينئذ يصير تقدير أحاديثكم : لا يجتمع مجتهدو فرقة من ثلاث وسبعين فرقة من أمتي على الخطأ ، وهو خبط عظيم ، وصرف للفظ عن أكثر مضمونه . فتبين بهذا أن المسلكين المذكورين لا ينهضان بالدلالة على أن الإجماع حجة .
قوله : " والأجود أنه مقدم على القاطع " إلى آخره . أي : والأجود في الاستدلال على أن الإجماع حجة هذا المسلك .
وتقريره : أن الإجماع مقدم في الاستدلال على النص القاطع ، من الكتاب والسنة بالإجماع . ولا يقدم على القاطع غيره بالإجماع ، فلو لم يكن الإجماع حجة قاطعة " لتعارض الإجماعان أعني الإجماع على " تقديم الإجماع على النص القاطع " والإجماع على أن لا يقدم على القاطع غيره " وتعارض الإجماعين محال .
قوله : " وللنظام منع الأولى " أي : منع المقدمة الأولى ، وهي قوله : الإجماع مقدم على النص إجماعا ، لأنه هو يخالف في ذلك ، فلا يثبت الإجماع بدونه ، إذ النزاع معه . وقد سبق تقرير تفسيره الإجماع بكل قول [ ص: 26 ] قامت حجته ، فإذا قامت حجة النص ، كان مقدما عنده على الإجماع الاتفاقي ، إذ ليس حجة عنده .
وحينئذ إذا لم يثبت أن الإجماع مقدم على القاطع ، لم يلزم من عدم كون الإجماع حجة تعارض الإجماعين ، ثم استحالة تعارض الإجماعين مبني على أن الإجماع حجة قاطعة ، وهو محل النزاع ، فيكون دورا ومصادرة على المطلوب .