[ ص: 27 ] وقيل : لم يظهر خلاف في صحة التمسك بالإجماع حتى خالف النظام ، والإجماع قبله حجة عليه ، إلا أنه تمسك بإجماع سكوتي ضعيف على قطعية الإجماع .
ومعنى كون الإجماع حجة وجوب العمل به مقدما على باقي الأدلة ، لا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر ، وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه .
قوله : " وقيل : لم يظهر خلاف في صحة التمسك بالإجماع ، حتى خالف النظام ، والإجماع قبله حجة عليه " .
هذا دليل استدل به بعض الأصوليين ، على أن الإجماع حجة على بطلان قول النظام في نفي ذلك .
وتقريره : أن علماء الأمة ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، لم يزالوا يتمسكون على صحة ثبوت الأحكام بالإجماع ، ولم يظهر أحد منهم خلافا في التمسك به ، حتى ظهر النظام فخالف فيه ، ويستحيل في مطرد العادة اتفاق الأمة في الأعصار المتكررة ، مع اختلاف فطرهم ، وتفاوت مذاهبهم في الرد والقبول ، على التمسك بما لا دليل على صحة التمسك به ، [ ص: 28 ] فذلك قاطع في حكم العادة ، بأنهم ظفروا بقاطع ، دل على صحة التمسك بالإجماع ، ويكون إجماعهم على ذلك قبل النظام حجة عليه ، فلا يكون خلافه معتبرا ، لأنه على خلاف القاطع .
قوله : " إلا أنه " إلى آخره . هذا تمشية لمذهب النظام بتوهين ما احتج به عليه ، من الإجماع قبله .
وتقريره : أن ما ذكره من الاحتجاج عليه متجه بالجملة بالإجماع قبله " إلا أنه تمسك بإجماع سكوتي ضعيف على قطعية الإجماع " أي : على كونه حجة قاطعة ، وذلك لأن قولهم : ما زالوا يتمسكون بالإجماع ، ولم يظهر أحد منهم خلافا ; هو معنى الإجماع السكوتي ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
والإجماع السكوتي حجة ضعيفة ، فكيف يحتج بها على كون الإجماع حجة قاطعة ، وهو من أعظم المطالب الدينية ، وهل ذلك إلا إثبات القوي بالضعيف ، كما سبق في إثبات الإجماع القاطع بالظواهر .
واحتج nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي من جهة المعقول : بأن الخلق الكثير من أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم ، وجزموا به ، وبلغ عددهم حد التواتر ، استحال في العادة أن لا يتنبه أحد منهم على الخطأ فيما حكموا به في ذلك ، وذلك يدل بحكم العادة على إصابتهم ، وهو المطلوب .
[ ص: 29 ] ثم قال : لكن هذه الطريقة تختص بما إذا بلغ المجمعون حد التواتر ، بخلاف ما إذا نقصوا عنه .
قلت : هذه الطريقة هي الطريقة السابقة في قولنا : وقيل : لم يظهر خلاف حتى خالف النظام ، ولا معنى لاشتراط بلوغ عدد التواتر ، بل الخلق الكثير عادة إذا اتفقوا على أمر ، قضت العادة بصوابهم فيه . أما اشتراط التواتر ، فغير متجه ، لأن عدده غير محصور كما سبق ، ولا يمكن أن يقال : المراد بعدد التواتر العدد الذي إذا أخبر ، حصل خبره العلم ، لما سبق من أن العلم حاصل بخلق الله تعالى له ، عند إخبار المخبرين ، لا بطريق التولد عن الإخبار .
وحينئذ لا يعلم العدد الذي لو أخبر ، لأفاد خبره العلم ما هو .
قوله : " ومعنى كون الإجماع حجة " إلى آخره .
لما سبق في صدر المسألة أن الإجماع حجة قاطعة ، وكان القاطع يطلق تارة على ما لا يحتمل النقيض ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، ويمتنع اجتماع الضدين ، وتارة يطلق على ما يجب امتثال موجبه قطعا ، ولا يمتنع مخالفته شرعا ; أحببت أن أبين ما المراد من كون الإجماع حجة قاطعة ، لأنه موضع إجمال واحتمال .
ومعنى كونه حجة قاطعة : أن العمل يجب " به مقدما على باقي الأدلة " : الكتاب والسنة والقياس ، فيقدم الإجماع على جميعها بحيث إذا [ ص: 30 ] أجمعت الأمة على نفي أو إثبات في مسألة ، ودل نص الكتاب ، أو السنة أو القياس ، أو جميع هذه الثلاثة على خلاف ذلك كله ، كان العمل بما أجمع عليه دون ما دل عليه باقي الأدلة ، لدلالة الإجماع على نص قاطع ناسخ لتلك الأدلة المخالفة له ، أو معارض لها راجح عليها ، وليس المراد بكون الإجماع حجة قاطعة القطع العقلي ، وهو الجزم " الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر " لأنه لو كان قطعيا بهذا التفسير ، لما اختلف العلماء في تكفير من أنكر حكما شرعيا ، لأن القواطع العقلية لا يختلف فيها ، ولا في تكفير من أنكر أحكامها المعتبرة شرعا ، كما لم يختلفوا في تكفير من قال بقدم العالم ، أو بنفي الصانع ، أو توحيده ، أو قدرته ، أو علمه ، أو بنفي النبوات ، ودلالة المعجزات عليها ، ونحو ذلك ، لكن سيأتي الخلاف في تكفير منكر الحكم الجماعي فدل ذلك على أن المراد بكونه قاطعا ، هو القطع الشرعي لا العقلي ، على ما بيناه ، والله أعلم .