[ ص: 66 ] الخامسة : الجمهور لا يشترط لصحة الإجماع انقراض العصر خلافا لبعض الشافعية ، وهو ظاهر كلام أحمد ; وأومأ إلى الأول .
وقيل : يشترط للسكوتي ; وقيل : للقياسي .
لنا : الإجماع : الاتفاق ، وقد وجد ، والسمعي عام ; فالتخصيص تحكم ، ولأنه لو اشترط لما صح احتجاج التابعين على متأخري الصحابة به ، ولامتنع وجوده أصلا للتلاحق ، واللازمان باطلان ، وفي الأخير نظر .
المسألة " الخامسة : الجمهور " أي : مذهب الجمهور أنه " لا يشترط لصحة الإجماع انقراض " عصر المجمعين ، وهو قول أبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة وأكثر الشافعية ; " خلافا لبعض الشافعية " وبعض المتكلمين ; منهم nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك ، " وهو ظاهر كلام أحمد " وقوله الموافق للجمهور أومأ إليه إيماء ، وهو معنى قولي : " وهو ظاهر كلام أحمد " وأعني اشتراط انقراض العصر " وأومأ إلى الأول " يعني عدم اشتراط ذلك .
" وقيل " أي : قال بعض الأصوليين : " يشترط " انقراض العصر للإجماع السكوتي دون غيره ، وهو اختيار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي ، لاحتمال أن يكون سكوت بعضهم نظرا وتأملا ، لا جزما ووفاقا ، ثم يظهر له دليل الخلاف ، فيجب قبوله منهم ، وإظهار الخلاف بعد السكوت دليل ظهور هذا الاحتمال ، بخلاف الإجماع بالأقوال والأفعال ، لانتفاء هذا الاحتمال .
" وقيل " أي : وقال بعضهم : يشترط انقراضه للإجماع القياسي ، أي : المنعقد عن قياس ، كنحو ما سبق ، فإن القياس يحتاج إلى نظر وتأمل ، [ ص: 67 ] ويقع فيه الخطأ كثيرا ، فيحتمل أن سكوت الساكت فيه ، أو وفاق الموافق كان عن تأمل أو عن خطأ ، ثم يظهر له بعد ذلك دليل الصواب .
أحدها : أن " الإجماع : الاتفاق ، وقد وجد " قبل انقراض العصر " والسمعي " أي : دليل السمع الدال على صحة الإجماع وعصمته " عام " في كونه حجة قبل انقراض العصر وبعده " فالتخصيص " بأنه إنما يكون حجة بعد انقراض العصر " تحكم " من غير دليل .
وبيان عموم الدليل السمعي ; أن قوله تعالى : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] يقتضي وجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وليس فيه تعرض لزمان دون زمان ، فيكون عاما في جميع الأزمنة بعد انعقاده .
فإن قيل : وجوب اتباع سبيل المؤمنين مأمور به ، لأنه واجب ، وكل واجب مأمور به ، وإذا ثبت أنه مأمور به ، كان عمومه في الزمان مبنيا على أن الأمر يقتضي التكرار ، وهو ممنوع .
وأيضا فإن وجوب اتباع سبيل المؤمنين من باب المطلق ، لا من باب العام ، والمطلق يحصل امتثاله بالمرة الواحدة ، فاتباع سبيل المؤمنين يحصل بالاتباع في بعض الأزمان ، وهو بعد انقراض العصر كما قلناه .
فالجواب : أن مثل هذا السؤال إنما يرخص في إيراد مثله عند التشغيب ، والمغاليط الجدلية لقهر الخصم ، أما عند التحقيق ، فلا ، ونحن نعلم قطعا بالضرورة وإجماع المسلمين ، أن الله - سبحانه وتعالى - أراد الدوام على اتباع [ ص: 68 ] سبيل المؤمنين في عموم الأزمنة ، فيبقى ما ذكرتموه من هذا السؤال خيالا يصادم خيالا ، مع أن بطلان ما ذكرتموه من جهة التفصيل ظاهر .
الوجه الثاني : " لو اشترط " انقراض العصر لصحة الإجماع " لما صح احتجاج التابعين على متأخري الصحابة به " أي : بالإجماع ، إذ قد كان للصحابة أن يقولوا للتابعين : كيف تحتجون علينا بالإجماع وهو لم يصح ، ولم يستقر بعد ، لأن شرط صحته انقراض عصر المجمعين عليه ، وهو باق لأننا نحن من المجمعين ، وها نحن باقون ، لكن التابعون كانوا يحتجون بالإجماع على متأخري الصحابة ، كأنس وغيره ، ويقرونهم عليه ، فدل على أن انقراض العصر لا يشترط لصحة الإجماع .
وأيضا : فإن الصحابة كانوا يحتجون بالإجماع بعضهم على بعض ، وعلى بعض التابعين ، كقول عثمان في حجب الأم بأخوين : لا أخالف أمرا كان قبلي ، ولو اشترط انقراض العصر ، لما قامت به الحجة قبل ذلك .
الوجه الثالث : لو اشترط انقراض العصر لصحة الإجماع " لامتنع " وتعذر " وجوده أصلا ، للتلاحق " أي : لتلاحق المجتهدين بعضهم ببعض ، متصلا في سائر الأعصار ، فإن الولادة والتناسل في العالم متصل ، فكلما ولد مولود ، واشتغل بالعلم حتى بلغ رتبة الاجتهاد ، وقد بقي من المجتهدين المجمعين قبله ولو واحد ، لم يتم الإجماع بدون هذا المجتهد اللاحق ، فيتلاحق مجتهدو التابعين بمجتهدي الصحابة ، فيمتنع استقرار إجماعهم ، ومجتهدو [ ص: 69 ] تابعي التابعين بمجتهدي التابعين كذلك ، وهلم جرا حتى تقوم الساعة ولا يستقر الإجماع ، لكن الإجماع ثابت مستقر ، محتج به في كل عصر ، باتفاق أهله ، فدل على أن انقراض العصر لا يشترط له .
قوله : " واللازمان باطلان " يعني اللازمين في هذين الوجهين الثاني والثالث ، لأنهما دخلا في ضمن ملازمة واحدة وهي قوله : " لأنه لو اشترط " يعني انقراض العصر " لما صح احتجاج التابعين " بالإجماع " ولامتنع وجوده أصلا للتلاحق " فامتناع وجود الإجماع ، وعدم صحة احتجاج التابعين به على الصحابة لازمان ، لاشتراط انقراض العصر له ، وهذان اللازمان باطلان ، لأن الإجماع قد وجد ، وما امتنع ، واحتجاج التابعين به على الصحابة قد صح ، وما عدم ، ولا انتفى ، وإذا بطل اللازمان ، بطل ملزومهما ، وهو اشتراط انقراض العصر للإجماع وهو المطلوب .
قوله : " وفي الأخير نظر " أي : في الوجه الأخير ، وهو امتناع الإجماع للتلاحق ، وصحة الاستدلال به نظر ، لأن الخصم إنما يشترط انقراض عصر المجمعين ، لا من يأتي بعدهم ويلحق بهم ، وعلى هذا التقدير ، لا يلزم من تلاحق المجتهدين امتناع وجود الإجماع أصلا ، فلما انقرض عصر الصحابة ، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد ، استقر إجماعهم ، وصح ، وصار حجة على من بعدهم من التابعين ; ولو كان فيهم مائة ألف مجتهد قد أدرك الصحابة ، لم يقدح ذلك في استقرار إجماعهم بانقراضهم ، وكذلك حكم [ ص: 70 ] إجماع التابعين مع من بعدهم ، وهلم جرا ، فهذا هو المراد بانقراض العصر ، لأن المجمعين ينقرضون ، وليس على وجه الأرض مجتهد من غيرهم .
وأبلغ من هذا : أن أهل العصر الأول إذا أجمعوا على حكم ، ثم نشأ منهم مجتهد ، لم يحضر إجماعهم على ذلك الحكم ، كأصاغر مجتهدي الصحابة مع أكابرهم ، لم يشترط في انقراض عصرهم انقراض ذلك المجتهد اللاحق لهم ، الذي لم يحضر معهم الإجماع في ذلك الحكم ، بل يكفي في استقرار إجماعهم ذلك أن ينقرضوا هم دونه .
وهذا الوجه يحتج به كثير من الفضلاء على عدم اشتراط انقراض العصر ، وهو مستدرك بما ذكرت . نعم هذا الاستدراك قد يستدرك بأن المشترط لانقراض العصر ، إنما اشترطه لجواز وقوع الإجماع عن اجتهاد ، وأن بعض المجمعين يتغير اجتهاده ، ويظهر له دليل الخلاف نصا أو اجتهادا صحيحا ، فيجب المصير إليه .
وهذا بعينه موجود في اللاحق . وحينئذ يلزم امتناع وجود الإجماع أصلا ، للتلاحق كما سبق .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : والمعتمد يعني في عدم اشتراط انقراض العصر أن المجمعين هم كل الأمة فيما أجمعوا عليه ، فكان إجماعهم حجة لما سبق من النصوص .