وشرعا : قيل : الخطاب بأمر أو نهي ، وهو صحيح . إلا أن نقول : الإباحة تكليف على رأي مرجوح ، فترد عليه طردا وعكسا . فهو إذن إلزام مقتضى خطاب الشرع . وله شروط ، يتعلق بعضها بالمكلف ، وبعضها بالمكلف به .
قوله في المختصر : " الفصل الثاني في التكليف . وهو لغة " ، أي : في اللغة " إلزام ما فيه كلفة أي : مشقة " .
قلت : إلزام الشيء والإلزام به : هو تصييره لازما لغيره ، لا ينفك عنه مطلقا أو وقتا ما .
قال الجوهري : والكلفة ما يتكلفه من نائبة أو حق ، وكلفه تكليفا : إذا أمره بما يشق . قلت : هذا تعريف لغوي بناء على ما اشتهر من حقيقة الكلفة ، وتعريفها الصناعي قد فهم من قوله : كلفه ، أي : أمره بما يشق ، فهي إذا كما قلناه : إلزام ما يشق . والشق والمشقة واحد ، وهو لحوق ما يستصعب بالنفس ، قال الله سبحانه [ ص: 177 ] وتعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] . وأنشد الشيخ أبو محمد مستشهدا على التكليف قول الخنساء في أخيها صخر بن عمرو بن الشريد :
يكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدا
أي : يلزمونه ذلك بحكم رئاسته عليهم .
قوله : " وشرعا " أي : والتكليف شرعا ، أي : في الشرع ، " قيل : الخطاب بأمر أو نهي " .
هذا هو الذي ذكره الشيخ أبو محمد ، وإنما قلت فيه : قيل ، لما ذكرته بعد من التفصيل ، فإنه على أحد التقديرين يكون منقوضا .
قوله : " وهو " أي تعريف التكليف بما ذكر " صحيح ، إلا أن نقول : الإباحة تكليف على رأي مرجوح ، فترد عليه " يعني : ترد الإباحة على تعريف التكليف المذكور " طردا وعكسا " أي : من جهة الطرد والعكس .
قلت : قد اختلف الأصوليون في الإباحة ، هل هي تكليف أم لا ؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . فإن قلنا : ليست تكليفا ، صح تعريف التكليف بما ذكر ، فيكون كل تكليف خطابا بأمر أو نهي ، وكل خطاب بأمر أو نهي تكليفا .
وكذلك من جهة العكس ، وهو انتفاء المحدود عند انتفاء الحد لأنه ليس كلما انتفى الخطاب بأمر أو نهي ، انتفى التكليف ، لأن الخطاب بأمر أو نهي قد ينتفي ، ويكون التكليف موجودا في المباحات ، إذ حقيقة الإباحة ، التخيير بين الفعل وتركه ، نحو إن شئت فافعل ، وإن شئت لا تفعل . وحقيقة التخيير ، غير حقيقة الأمر والنهي .
فإذا قلنا : الإباحة تكليف ، فقد صح وجود التكليف مع انتفاء الأمر والنهي .
تنبيه : اطراد الحد ، كونه جامعا لأجزاء المحدود ، وانعكاسه ، كونه مانعا . فمعنى كونه مطردا منعكسا ، هو معنى كونه جامعا مانعا .
فإذا قلنا : الإنسان حيوان ناطق ، هو مطرد ، لأنه حيث وجد الحيوان الناطق ، وجد الإنسان ، ومنعكس ، لأنه حيث انتفى الحيوان الناطق ، انتفى الإنسان ، وكذلك نقول : هو جامع ، لأنه جمع أجزاء نوع الإنسان ، فلم يخرج عنه شيء منه ، وهو مانع ، لأنه منع شيئا من أجزاء نوع الإنسان أن يخرج عنه .
والاطراد ، مشتق من الطرد ، قال الجوهري : طردت الإبل طردا وطردا ، أي : ضممتها من نواحيها ، وقال في موضع آخر : اطرد الأمر ، أي : استقام ، واطرد الشيء : تبع بعضه بعضا ، فهذه المعاني كلها موجودة في اطراد الحد ، لأنه يضم أجزاء المحدود ويجمعها ، ويتبع المحدود ، بحيث يوجد حيث وجد ، ويستقيم بذلك ويستمر عليه .
وأما الانعكاس : فهو انفعال من العكس .
قال الجوهري : هو ردك آخر الشيء إلى أوله ، والعكس في الاصطلاح ، أعم من هذا . ولا شك أن قولنا : إذا وجد وجد .
قلت : وإذا انتفى ، فيه معنى العكس ، لأن الوجود والعدم ، والإثبات [ ص: 179 ] والنفي متقابلان تقابل الأول والآخر ، أو نحو ذلك .
فحده الصحيح الذي لا ينتقض بالإباحة ، هو قولنا : إلزام مقتضى خطاب الشرع ، لأنه يتناول الإباحة ، وهي قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ، لأنها خطاب الشرع ، كما أن الأمر والنهي خطاب الشرع .
فالتكليف : إلزام مقتضى هذا الخطاب ، وهو الأحكام الخمسة : الوجوب ، والندب الحاصلين عن الأمر ، والحظر والكراهة الحاصلين عن النهي ، والإباحة الحاصلة عن التخيير ، كما سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : مقتضى الإباحة لا يلزم ، قلنا : يأتي جواب هذا إن شاء الله تعالى .
قوله : " وله شروط " أي : للتكليف شروط " يتعلق بعضها بالمكلف " وهو العاقل المخاطب ، " وبعضها بالمكلف به " وهو الفعل المستدعى بالخطاب .