وشرعا : حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما ، وقيل : إثبات مثل الحكم في غير محله لمقتض مشترك .
وقيل : تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره بجامع مشترك ، ومعانيها متقاربة ، وقيل غير ما ذكر .
وقيل : هو الاجتهاد ، وهو خطأ لفظا وحكما .
قوله : " القياس " ، أي : القول في القياس ، وهو " لغة " ، أي : في اللغة " التقدير ، نحو : قست الثوب بالذراع " ، أي : قدرته به ، " والجراحة بالمسبار " ، وهو ما يسبر به الجرح ، أي : يراز به ليعلم عمقه ، وهو مع الجراحية شبه الميل .
قال الجوهري : قست الشيء بالشيء ، أي : قدرته على مثاله ، يقال : قست " أقيس وأقوس " ، فهو من ذوات الياء والواو ، ونظائره في اللغة كثيرة ، والمصدر قيسا وقوسا بالياء والواو من بناء أقيس قياسا ، وهو على القياس في مصدر ذوات الياء ، وأقوس " قوسا " .
قوله : " وقياسا فيهما " ، أي : في اللغتين تقول : قياسا ، فتقول : أقيس قياسا ، وهو على القياس في مصدر ذوات الياء ، وأقوس قياسا ، وقياسه : قواسا ، لكن لما انكسر ما قبل الواو ، انقلبت ياء ، كما قالوا : قام قياما ، وصام [ ص: 219 ] صياما ، وصال صيالا ، وأصل جميع ذلك الواو .
واعلم أنا قد بينا أن القياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم ، وهو في الشرع تسوية خاصة بين الأصل والفرع ، فهو كتخصيص لفظ الدابة ببعض مسمياتها ، فهو حقيقة عرفية ، مجاز لغوي .
قوله : " وشرعا " ، أي : والقياس شرعا ، أي : في الشرع واصطلاح علمائه ; قيل : " حمل فرع على أصل في حكم ; بجامع بينهما " ، كحمل النبيذ على الخمر في التحريم بجامع الإسكار ، ونعني بالحمل : الإلحاق والتسوية بينهما في الحكم ، وربما أورد على هذا أن الأصل والفرع لا يعرفان إلا بعد معرفة حقيقة القياس ، فأخذهما في تعريفها دور .
" وقيل " : القياس : " إثبات مثل الحكم في غير محله لمقتض مشترك " ، كإثبات مثل تحريم الخمر في النبيذ ، وهو غير محل النص على التحريم ، إذ محله الخمر لعلة الإسكار وهو المقتضي للتحريم المشترك بين الخمر والنبيذ .
" وقيل " : القياس " تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره بجامع " كتعدية تحريم الخمر المنصوص عليه إلى النبيذ الذي لم ينص على تحريمه للجامع المذكور المشترك ، وكتعدية تحريم التفاضل في البر المنصوص عليه إلى الأرز الذي ليس منصوصا عليه لعلة حصول التفاضل والتغابن فيهما ، وهو الجامع المشترك بينهما .
قوله : " ومعانيها " ، أي : معاني هذه التعريفات للقياس " متقاربة " ، أي : [ ص: 220 ] بعضها قريب من بعض إن لم تكن متساوية حقيقة .
قوله : " وقيل " أي : في تعريف القياس " غير ما ذكر " ، أي : ما ذكر من التعريفات .
فمنها ما يعزى إلى القاضي أبي بكر . واختاره كثير ممن بلغه ، وهو أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما .
وقد زيف هذا على هذه الصيغة بأن قوله : في إثبات حكم لهما ، غير صحيح ؛ لأن القياس لا يطلب به معرفة حكم الأصل ، إذ حكمه معلوم ، وإنما يطلب به حكم الفرع .
وقيل فيه : حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم أو نفيه بناء على جامع من صفة أو حكم وجودا وانتفاء .
مثال الوجود قولهم في القتل بالمثقل : قتل عمد عدوان ، فأوجب القود كالقتل بالمحدد .
ومثال الانتفاء قولهم فيه . قتل لا يخلو من شبهة ، أو قتل تمكنت منه الشبهة ، فلا يوجب القصاص قياسا على العصا الصغيرة .
وقال القرافي : هو إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم عند المثبت .
فقوله : إثبات ، يراد به المشترك بين العلم والظن والاعتقاد ؛ لأنا إذا أثبتنا [ ص: 221 ] حكما بالقياس ، فقد يعلم ثبوت ذلك الحكم في الفرع قطعا ، وقد يظنه ظنا ، وقد يعتقده اعتقادا ، والعلم والظن والاعتقاد مشتركة في كونها إثباتا .
وقولنا : مثل حكم معلوم ؛ لأن حكم الفرع ليس هو نفس حكم الأصل ، إذ الحكم وصف لمحله ، ووصف أحد المحلين ليس وصفا للآخر ، فتحريم الخمر ليس هو نفس تحريم النبيذ ، بل هو مثله .
وقولنا : حكم معلوم لمعلوم ليتناول الموجود والمعدوم ، ولم نقل : حكم شيء لشيء ؛ لئلا يختص بالموجود على أصلنا في أن المعدوم ليس بشيء ، والقياس الشرعي جار في الموجود والمعدوم والمثبت والمنفي .
وقولنا : لاشتباههما في علة الحكم ظاهر ، ولعل فيه تنبيها على تناوله قياس الشبه وغيره .
وقولنا : عند المثبت ؛ ليشمل القياس الصحيح والفاسد ؛ وذلك لأن العلة قد تكون منصوصة ، وقد تكون مستنبطة ، كعلة الربا المستخرجة من تحريم الربا في الأعيان الستة بطريق تخريج المناط ، وهل هي الكيل ، أو الطعم ، أو الوزن ، أو الاقتيات ؟ ، وقد ذهب إلى كل واحدة منهن بعض المجتهدين ، ومراد الشرع إنما هو واحدة منها ، فلو اقتصرنا على قولنا : لاشتباههما في علة الحكم ، لكان بتقدير أن تكون العلة المرادة من الحديث هي الكيل ، يكون التعليل بغيرها قياسا فاسدا خارجا عن الحد المذكور ؛ لأنه بغير العلة المرادة للشارع ، فإذا قلنا : لاشتباههما في علة الحكم عند المثبت ، وهو القائس ، كان إثبات كل مجتهد للحكم بالوصف الذي رآه علة قياسا شرعيا داخلا في [ ص: 222 ] الحد المذكور ؛ لأنا إن قلنا : كل مجتهد مصيب ، فظاهر أنه قياس شرعي . وإن قلنا : المصيب واحد لا غير ، فهو غير معين ، فيكون الجميع أقيسة شرعية ، إذ ليس بعضها أولى بالصحة أو البطلان من بعض .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي في " المنتهى " : القياس في اصطلاح الأصوليين منقسم إلى قياس العكس ، وهو تحصيل نقيض حكم معلوم في غيره ؛ لافتراقهما في علة الحكم ، وإلى قياس الطرد ، وهو عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل .
قلت : ويرد على ظاهره القياس على العلة المنصوصة ، فإنه خارج عنه لا يتناوله ؛ لأنها ليست مستنبطة .
أحدها : إما جلي : وهو ما كانت العلة الجامعة فيه بين الأصل والفرع منصوصة ، أو مجمعا عليها ، أو ما قطع فيه بنفي الفارق ، كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب .
وإما خفي : وهو ما كانت العلة فيه مستنبطة ، وقد سبق الكلام في الجلي والخفي في تخصيص العموم .
الثاني : إما مؤثر : وهو ما كانت العلة الجامعة فيه ثابتة بنص أو إجماع ، أو كان الوصف الجامع فيه قد أثر عينه في عين الحكم أو في جنسه ، أو جنسه في جنس الحكم .
وإما ملائم : وهو ما أثر جنس العلة فيه في جنس الحكم .
الرابع : أن طريق إثبات العلة المستنبطة ، إما المناسبة ، أو الشبه ، أو السبر والتقسيم ، أو الطرد أو العكس ، فالأول يسمى : قياس الإخالة ، ومعناه أن المجتهد يتخيل له مناسبة الوصف للحكم ، فيعلقه به ، والثاني قياس الشبه ، والثالث قياس السبر ، والرابع قياس الطرد .
قلت : ذكر القسمة بهذه الاعتبارات nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي ، وسيأتي بيان ما لم يسبق بيانه منها مشروحا إن شاء الله تعالى .
قوله : " وقيل : هو " ، يعني القياس هو : " الاجتهاد ، وهو " يعني هذا التعريف " خطأ لفظا وحكما " ، أي : من جهة اللفظ والحكم .
أما من جهة اللفظ ، فلأن لفظ القياس ينبئ عن معنى التقدير والاعتبار ، والاجتهاد لا ينبئ عن ذلك ، وإن أنبأ عنه ، فليس هو بلازم له ، بخلاف القياس .
وأما من جهة الحكم ، فلأنه منتقض بالنظر في العمومات ، ومواقع الإجماع وغيرها من طرق الأدلة طلبا للحكم ، فإنه اجتهاد ، وليس بقياس ؛ ولأن الاجتهاد ينبئ عن بذل الجهد في النظر ، والقياس قد يكون جليا ، فلا يحتاج إلى ذلك .
قلت : فرجع حاصل الكلام إلى أن تعريف القياس بالاجتهاد تعريف بالأعم ، فإن الاجتهاد أعم من القياس ، إذ كل قياس اجتهاد ، وليس كل اجتهاد قياسا ، فكان الحد غير جامع لخروج القياس الجلي منه ، ولا مانع لدخول [ ص: 225 ] ما ليس بقياس فيه كما بيناه .
ومن التعريفات الفاسدة للقياس قول من قال : هو إصابة الحق ، وهو منتقض بنحو ما سبق ؛ لأن من أصاب الحق بالنص أو الإجماع ، لا يكون قياسا .
وقد يطلق القياس على المقدمتين الموضوعتين وضعا خاصا بحيث يحصل منهما نتيجة .
ويرسمه المنطقيون بأنه عبارة عن أقوال إذا سلمت ، لزم عنها لذاتها قول آخر ، نحو : كل حيوان جسم ، وكل جسم مؤلف ، يلزم عنه أن كل حيوان مؤلف ، فهذه نتيجة لازمة عن مقدمتين ، ولو أضفنا إليهما مقدمة أخرى ، وهي قولنا : كل مؤلف محدث ; لزم عن ذلك أن كل حيوان محدث ، فهي نتيجة لازمة عن مقدمات بطريق التركيب .
قال الشيخ أبو محمد : وإطلاق القياس على هذا ليس بصحيح ؛ لأن القياس اسم إضافي يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر ويقدر به ، كما ذكر في اللغة أنه تقدير شيء بشيء ، وليس هذا كذلك .
قلت : تسمية المنطقيين لهذا قياسا هو اصطلاح بينهم ، والأمر في الاصطلاحيات قريب ، على أنه ليس عريا عن معنى التقدير والاعتبار ، إذ هو اعتبار للنتيجة بالمقدمتين في نظر العقل ، وتقدير لها بنظائرها من النتائج في طريق لزومها عن المقدمتين ، وغاية ما ثم أن معنى التقدير في هذا أخفى منه في غيره ، لكن ذلك لا يخرجه عن كونه قياسا لغة أو في معناه .