الأول : القياس يتضمن دفع ضرر مظنون ، وهو واجب عقلا ، فالقياس واجب عقلا ، والوجوب يستلزم الجواز .
أما الأولى : فلأنا إذا ظننا أن الحكم في محل النص معلل بكذا وظننا وجود العلة في محل آخر ، ظننا أن الحكم فيه كذا ، فظننا بأننا إن اتبعناه سلمنا من العقاب ، وإن خالفناه عوقبنا ، ففي اتباعه دفع ضرر مظنون .
قوله : الوجه " الأول " : أن " القياس يتضمن دفع ضرر مظنون " ، ودفع الضرر المظنون " واجب عقلا ، فالقياس واجب عقلا ، والوجوب يستلزم الجواز " ؛ لأن الوجوب أخص من الجواز ، فيلزم من وجوده وجود الأعم ، والغرض من هذا أن الدليل المذكور يدل على جواز القياس ووجوبه عقلا .
" أما الأولى " : يعني أما المقدمة الأولى من مقدمتي هذا الدليل ، وهي أن " القياس يتضمن دفع ضرر مظنون " ، أي : يظن وقوعه ; " فلأنا إذا ظننا أن الحكم في محل النص معلل بكذا " ، أي : بوصف ما ; " وظننا وجود العلة في [ ص: 248 ] محل آخر ; ظننا " ، أي : حصل لنا الظن " بأن الحكم " في هذا المحل كالحكم في محل النص .
مثاله : إذا ظننا أن تحريم الخمر معلل بالإسكار ، وظننا وجود الإسكار في النبيذ ، غلب على ظننا أن حكمه حكم الخمر في التحريم . وحينئذ يحصل لنا الظن بأنا إن اتبعنا الظن الحاصل لنا من القياس باجتناب النبيذ مثلا ، " سلمنا من العقاب ، وإن خالفناه " ، فشربنا النبيذ ، " عوقبنا " ، فتحقق بهذا التقرير أن في اتباع القياس " دفع ضرر مظنون " .
أما عقلا ، فلأن العاقل إذا غلب على ظنه بقرينة ، أو بخبر ثقة أنه إن سلك هذا الطريق ، أكله السبع ، أو أخذ اللصوص ماله ; وإن لم يسلكه أو سلك غيره ، سلم من ذلك ، فالعقل يضطره إلى اجتناب ذلك الطريق المخوف .
وأما شرعا ; " فلقوله تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، ونحوه " من الوعيد الشرعي ، واتقاء النار إنما يحصل باجتناب المعاصي مقطوعها ومظنونها .
واعلم أن الكفار عليهم لعنة الله أنكروا الشريعة ، ومما أنكروه منها أصول مهمة كبار ، وهي وجود الصانع وتوحيده والمعاد ، وحجهم الله تعالى في جميع ذلك بالقياس العقلي .
إحداهما : أن هؤلاء الكفار المنكرين للصانع موجودون فلا يخلو إما أن يكونوا قدماء لا أول لهم ، أو محدثين ، والأول باطل يعترفون ببطلانه ، فإنهم وجدوا بعد أن لم يكونوا ، فتعين الثاني ، وهو أنهم محدثون . وحينئذ فإما أن يكونوا خلقوا من غير شيء ، أي : من غير خالق أوجدهم ، أو أنهم خلقوا أنفسهم ، أو أن خالقا غيرهم خلقهم ، والأول باطل ، إذ لا يعقل في الشاهد فعل لا فاعل له ، ولا محدث لا محدث له ، والثاني باطل ، إذ لا يصح ولا يعقل في الشاهد ولا في غيره أن شيئا يوجد نفسه لاستلزام ذلك كونه موجودا معدوما في زمن واحد ، وهو محال ، فتعين الثالث وهو أن خالقا غيرهم خلقهم ، وهو الصانع القديم - سبحانه وتعالى - ، إذ لو لم يكن قديما ، للزم الدور أو التسلسل بدليله الكلامي .
[ ص: 250 ] الحجة الثانية : أن هؤلاء المنكرين للصانع لم يخلقوا السماوات والأرض قطعا ، وهم يعترفون بذلك أيضا ، وحينئذ فإما أن تكونا قديمتين ، أو محدثتين ، والأول باطل لقيام سمات الحدوث بهما من الحركات ، والسكنات ، والألوان ، والأكوان ، وإلى ذلك أشار إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بقوله : لا أحب الآفلين [ الأنعام : 76 ] . وإذا ثبت أن السماوات والأرض محدثتان ; فإما أن يكونا خلقتا من غير خالق ، أو خلقتا أنفسهما ، أو خلقهما غيرهما ، والأول والثاني باطل بما سبق ، فتعين الثالث كما مر ، وليس هؤلاء هم الذين قيل في حقهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ لقمان : 25 ] ؛ لأن هؤلاء مثبتة للصانع ، لكنهم يشركون ، والذين نحن في تقرير الحجة عليهم معطلة ، وكلا الطائفتين كانتا في العرب على ما حكاه nindex.php?page=showalam&ids=14592الشهرستاني في " الملل والنحل " وعلى هؤلاء وغيرهم حجج كثيرة في القرآن يطول استيفاؤها .
وأما الذين أنكروا التوحيد ; فمنهم من ادعى الشريك ، ومنهم من ادعى الولد .
فأما الذين اعتقدوا الشريك ، فاحتج الله تعالى عليهم بوجوه :
أحدهما : أنه لو كان مع الله تعالى إله غيره ، لقضت العادة في الشاهد أن يقتتلا أو يختلفا على عادات الملوك إذا تنازعوا الملك ، فكان يفسد العالم باختلافهما .
الثاني : لو كان ثم إله آخر ، لكان خالقا لبعض العالم ، فكان كل واحد من الإلهين ينحاز بمخلوقه ، ثم يطلب أحدهما العلو على الآخر ، وكان ذلك يظهر للأبصار أو البصائر ، لكن لم يكن شيء من ذلك ، فدل على بطلان الدعوى .
وثم وجه ثالث ، لكنه ليس من باب قياس الشاهد ، بل من باب اجتماع الضدين ، وهو أنه لو كان ثم إله آخر ، لكان كل واحد منهما كامل القدرة والإرادة ، وإلا لم يكن إلها . وحينئذ فلو قدر أن أحدهما أراد تسكين جسم ، والآخر تحريكه ، أو أراد أحدهما إعدامه ، والآخر إيجاده ، فإن لم يتم مرادهما جميعا ، فهما عاجزان ، وليس أحدهما بإله ، وإن تم مرادهما جميعا ، لزم اجتماع النقيضين ، وإن تم مراد أحدهما ، فهو الإله ، والعاجز عن تمام مراده ليس بإله .
الوجه الثاني : من الاحتجاج على منكري التوحيد قوله - سبحانه وتعالى :
[ ص: 252 ] الوجه الثالث : من الاحتجاج على معتقدي الشريك قوله - سبحانه وتعالى - : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم [ الروم : 28 ] . وتقرير الدليل من الآية ، كما أنه ليس لكم من عبيدكم شركاء في أموالكم وأملاككم ; كذلك يجب أن لا يكون لله - سبحانه وتعالى - شركاء من خلقه ، وكيف ترضون لله - سبحانه وتعالى - بما تأنفون منه لأنفسكم . فهذه أدلة نفي الشريك التي اخترنا ذكرها ، وفي القرآن غيرها .
وتقرير الدليل من هذه الآيات ونحوها : أنكم أيها الكفار تستحيون من حصول البنات لكم ، حتى أن أحدكم إذا بشر بأنه قد ولد له بنت اربد وجهه ، ونكس رأسه ، وحزن ، وخجل ، وذهب فوأدها ، أي : دفنها حية لئلا يلحقه العار ببقائها ، فكيف ترضون لله - عز وجل - ما تكرهونه لأنفسكم هذه الكراهة ؟ وهل هذا إلا من المستقبحات الضرورية في الشاهد ، إذ هو من باب قول الشاعر : [ ص: 253 ]
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأيضا فإن أحدكم يستقبح أن يخاصم عدوه بجبان ألكن عري عن البيان ، فكيف ترضون إثبات من له هذه الصفات لله تعالى ! وإليه الإشارة بقوله - عز وجل : أومن ينشأ في الحلية الآية . وأيضا فإن اختياركم لأنفسكم ذكور الولد ، ولله - سبحانه وتعالى - إناثهم قسمة ضيزى ، أي : جائرة ، والقسمة الجائرة قبيحة عقلا وشاهدا ، فكيف ترضونها لأنفسكم ! .
ووجه كون الإعادة أهون من الإبداء : هو أن الإعادة مبنية على الإبداء ؛ لأن المعاد له أصل في الوجود والحياة ، والإبداء ليس مبنيا إلا على مجرد القدرة الباهرة لا على سبب سابق .
ومن هذا الباب زعم بعضهم أن معجز موسى أعظم من معجز عيسى عليهما السلام ؛ لأن الموتى لهم أصل في الحياة سابق ، والعصا ليست كذلك .
أحدهما : قياس شبهي ، وهو قياس إحياء الأبدان بالأرواح على إحياء الأرض بخضرتها وزهرتها بعد يبسها ومحولها ، والجامع بينهما أن الخضرة والنضارة للأرض تشبه الروح للجسد ، وهذا جامع شبهي لا شك فيه ، وهو مجازي أيضا ؛ لأن الموت حقيقة في الأجسام الحيوانية أو في الذوات الحية ، واستعماله في الأرض والبلد نحو قولنا : أرض ميتة وبلد ميت ، مجاز لما ذكرنا .
النوع الثاني : القياس في معنى الأصل ، وهو قياس جمع الأجسام بعد استهلاكها في الأرض ، وإحيائها بإعادة الأرواح فيها على جمع أجزاء الحب بعد استهلاكه في الأرض ، وإحيائه بإعادة النبات فيه .
واعلم أن الحب إذا صار في الأرض لا يتلاشى بحيث يصير عدما محضا ، [ ص: 257 ] بل ذاته باقية ، لكنها اختلطت بأجزاء الأرض حتى عاد بحيث يتعذر في العادة جمعه على القوة البشرية ، ثم يعرض له بعد ذلك عفن وفساد مزاج ، فإذا أصابه الماء وحرارة الأرض العارضة ، تهيأ للنبات والصلاح بقدرة فالق الإصباح .
أما الأجسام الحيوانية ، فاختلف فيها بناء على الخلاف في الجوهر الفرد ، وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، فمن نفاه زعم أن الأجسام تتلاشى ، وتصير عدما محضا ونفيا صرفا ، ومن أثبته وهو قول الأكثرين قال : إن الأجسام تنحل إلى الجواهر المفردة ، ثم عند البعث تلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض ، ثم تعود أجساما كما كانت ، وهذا هو الصحيح المختار ، حتى سمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعض مشايخه أنه كان يقول : إن ثبت القول بالجوهر الفرد ، أمكن القول بالمعاد وبعث الأجساد ، وإلا فلا .
قلت : فبهذا يتحقق أن هذا القياس في معنى الأصل ؛ لأن الجسد يفسد مزاجه ، وتتفرق أجزاؤه في الأرض ، ثم يعود حيا حياته التي تليق به ، وهو مستعد لها ، كما أن الحبة في الأرض يفسد مزاجها ، وتتفرق أجزاؤها ، ثم تعود حية حياتها التي تليق بها ، وهي مستعدة لها .
وبالجملة فغالب ما احتج الله - سبحانه وتعالى - به على خلقه ، والأنبياء عليهم السلام على أممهم بالبراهين الجلية والأقيسة العقلية ، وذلك في أصول الديانات التي الخطأ فيها كفر ، فكيف يمتنع القياس في الفروع [ ص: 258 ] التي المخطئ فيها مأجور ! .
ومن نظر فيما نبهت عليه من الأقيسة العقلية في هذه المسائل المذكورة ، ثم أنكر القياس ; فهو إما جاهل أو معاند .