الوجه " الثالث " من أدلة القياس المذكورة في " المختصر " : أن " القياس اعتبار ، والاعتبار مأمور به ، فالقياس مأمور به " .
" أما " المقدمة " الأولى " ، وهي أن القياس اعتبار فهي " لغوية " ، أي : طريق معرفتها اللغة " كما سبق " في أول الكلام على القياس ، وأنه التقدير والاعتبار ، وأيضا فإن الاعتبار مشتق من العبور ، وهو المجاوزة ، ومنه المعبر ؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر ، وعابر المنام ؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة ، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره ، ويعبر منه إليه ، فكان القياس اعتبارا بحكم الاشتقاق .
[ ص: 260 ] " وأما " المقدمة " الثانية " وهي أن الاعتبار مأمور به فلقوله تعالى : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، أمر بالاعتبار ، والأمر للوجوب ، فيكون الاعتبار الذي منه القياس واجبا .
ووجه دفع السؤال أن يقال : احتجاجنا بالأمر بالاعتبار مع قطع النظر عما في سياقه من تخريب الديار ، وهذا جواب دافع للسؤال المذكور .
لكن هناك سؤال آخر يفسد الاستدلال بالآية ، وتقريره : أن الأمر بالاعتبار في الآية فعل في سياق الإثبات ، والفعل في سياق الإثبات مطلق لا عموم فيه ، فالتقدير : اعتبروا اعتبارا ما ، وذلك يحصل بفرد من أفراد الاعتبار ، ولا يتعين القياس ، وإنما يصح الاستدلال بها لو كانت عامة ليندرج فيها محل النزاع ، وليس الأمر كذلك ، وغالب الأصوليين خصوصا المتأخرين يحتجون بالآية على إثبات القياس ، وعليها من الإشكال ما قد رأيت .
وكذلك يروى أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا : يا رسول الله ، يكون [ ص: 262 ] على أحدنا الأيام من رمضان ، أفيجزئه أن يصومها متفرقة ؟ قال : أرأيتم لو كان على أحدكم دين ، فقضاه بالدرهم والدرهمين ، أكان يجزئ عنه ؟ قالوا : نعم ، قال : فالله أكرم يعني بالمسامحة والتخفيف ، وهذا قياس لحق الله تعالى على حق الآدمي في إجزائه متفرقا .
" وأجمع الصحابة على العمل به " ، أي : بالقياس " في الوقائع كتقديمهم أبا بكر في الإمامة العظمى قياسا على تقديمه في الصغرى " ، حيث قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحراب ، فصلى بهم في مرضه ، فقالوا : رضيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟ !
أحدهما : أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه لما طعن ، قيل له : استخلف ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف . فلو كان لهذه الأحاديث أصل أو ثبوت ، لما خفيت عن عمر - رضي الله عنه - في العادة مع كثرة ملازمته رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وحرصه على العلم . ولما استجاز أن يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف ، مع وجود النص على زعمكم ، ولو سلمنا خفاء ذلك عن عمر - رضي الله عنه ، لكن خفاؤه عن الصحابة ممتنع عادة ، وقد كانت دواعيهم متوفرة على استخلاف عمر عليهم ، فلو ثبت النص ، لعرفوه ، ثم لصاروا إليه .
الوجه الثاني : سلمنا صحة الحديثين ، لكن لا دليل فيهما على الإمامة .
أما الأول ، فلأن قوله - عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022355اقتدوا باللذين من بعدي أمر في سياق الإثبات ، فهو مطلق لا عموم له ، فلا يتعين للإمامة ، وقد حصل الوفاء بمطلق الحديث باقتدائهم بهما في الفتاوى والآراء في الحروب وغيرها ، ولعل هذا هو كان المراد بالقدوة ، ولو أراد الاقتداء في الإمامة ، لصرح به ، وإلا كان إيهاما وتلبيسا وتعريضا للأمة بعد للخلاف والاضطراب وفساد الاعتقاد فيمن يكون الخليفة .
[ ص: 264 ] وأما الحديث الثاني ; فقوله : ائتي أبا بكر فليس نصا في الخلافة ، ولو سلمنا أنه نص ، لكنه خبر لا إنشاء تولية ، ولا أمر بها ، وقد يخبر الإنسان بما لا يرضاه ولا يأمر به ، ومن الجائز أنه - عليه السلام - كشف له بوحي أو إلهام أن الخليفة بعده أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بحكم المقدور السابق ، ولم يوص بالتغيير عليهما بذلك ، ولا يلزم من ذلك رضاه ، كما أنه كشف له في حياته عن قتل الحسين وموت الحسن مسموما ونحو ذلك ، ولم يدل على رضاه ، وأيضا فلو صح هذا الحديث ونحوه ودل على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه ، لما عدل عنه يوم السقيفة إلى الأدلة العامة ، نحو قوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=1022395الأئمة من قريش " وشبه ذلك مما احتج به ، بل كان صدعهم بالنص الجلي ، وإذا ثبت أنه لا نص على إمامته ، فما ثبت إلا بالقياس .
ومن ذلك قياس أبي بكر - رضي الله عنه " الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها " بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام حيث قال : لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، وكذلك " تقديمهم عمر " - رضي الله عنه - للإمامة بعهد أبي بكر " قياسا لعهد أبي بكر - رضي الله عنه - إليه على عقدهم إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - في قضايا كثيرة " مشهورة استعملوا فيها [ ص: 265 ] القياس ، " لا يقال : هذه الأخبار آحاد لا يثبت بها " مثل هذا الأصل الكبير ، " لأنا نقول : هي " وإن كانت آحادا بالنظر إلى أفرادها ، فهي بالنظر إلى مجموعها " تواتر معنوي ، كسخاء حاتم ، وشجاعة علي " ، كما تقرر في باب الإجماع في مثل هذا .