اللهم يا واجب الوجود ، ويا موجد كل موجود ، ويا مفيض الخير والجود ، على كل قاص من خلقه ودان .
قال الشيخ الإمام العالم العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي تغمده الله تعالى برحمته : قوله : " اللهم يا واجب الوجود ، ويا موجد كل موجود ، ويا مفيض الخير والجود ، على كل قاص من خلقه ودان " .
الكلام عليه من وجوه :
أحدها : أن هذه الجملة ونظائرها من خطبة الكتاب مربعة نونية . أعني أنها مشتملة على أربع فقر : ثلاث منها على فاصلة واحدة ، والرابعة فاصلتها نون ، غير أن الثلاث الأول تختلف حروف فواصل فقرها في الخطبة ، كالدال في هذه ، والهاء والميم والهمزة وغير ذلك فيما بعدها ، كقوله : " الباهرة " و " الندم " و " الآلاء " و " أسلم " و " أصفيائك " إلى آخر الخطبة ، والرابعة لازمة للنون لا تختلف ، ونظير هذه [ ص: 54 ] الخطبة في التربيع قوله سبحانه تعالى : إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ فاطر : 14 ] . فالفقر الثلاث الأول على الكاف والميم بخطاب الجمع المذكر ، والرابعة على الراء ، والنظير هاهنا في مطلق التربيع لا في عين حروف الفواصل .
والفقر بكسر الفاء وفتح القاف جمع فقرة - بسكون القاف - وهي أجود بيت في القصيدة ، شبه بفقارة الظهر ، ثم سميت القطعة من السجع فقرة تشبيها به ، والفاصلة في النثر كالقافية في الشعر ، وقد حققت القول فيها في كتاب " بغية الواصل إلى معرفة الفواصل " .
ذكر هذه الألفاظ بإسناده الحسن بن محمد المصري في " الإفصاح " والحديث مشهور بين أهل العلم
قدمت نداء الله سبحانه وتعالى ودعاءه بالتوفيق والإعانة على التحقيق ، وجعلت ذلك توطئة إلى حمده واستجلاب ما عنده من فواضل رفده .
الوجه الثالث : في الكلام على ألفاظ الجملة المذكورة ومعانيها ، فأقول : اللهم : أصله يا الله ، فحذفت " يا " من أوله وعوض عنها الميم في آخره ، ولذلك لا يجتمعان إلا في ضرورة الشعر كقوله :
إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما
[ ص: 56 ] لئلا يجمع بين العوض والمعوض ، وكان ما فعلوه من الحذف والتعويض لوجهين :
أحدهما : أن يكون الابتداء بلفظ اسم الله تبركا وتعظيما .
والثاني : طلبا للتخفيف بتصيير اللفظين لفظا واحدا ، كما قالوا : أيش هذا ، وأصله أي شيء هذا في نظائر له كثيرة .
أما واجب الوجود : فالواجب هو المستقر الثابت ، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى له مزيد بيان عند ذكر أقسام الأحكام .
والوجود : هو الإثبات الصرف ، كما أن نقيضه - وهو العدم - النفي الصرف ، ولذلك ذهب المحققون إلى أن الوجود في المعلومات بديهة ، فهو غني عن التعريف .
إذا عرفت هذا فقولهم : واجب الوجود عبارة أحدثها الفلاسفة والمتكلمون وهي لا تعرف في كلام الشارع ولا في كلام السلف فيما علمنا ، لكن معناه ثابت في كلام الشارع ، مجمع عليه ، فإن معنى واجب الوجود عند أهل هذه العبارة ، هو الموجود الذي لم يسبق وجوده عدم ، ووجوده من ذاته لذاته ، لا من سبب خارج ، ولا لعلة خارجة ، وهذا معنى قوله تعالى : هو الأول والآخر [ الحديد : 3 ] ، وقوله عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022004أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء في حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه . [ ص: 57 ]
وتحقيق الكلام في هذا المقام : أن الشيء أو المعلوم إما أن يجب وجوده لذاته أو يمتنع وجوده لذاته ، أو يكون لذاته جائز الوجود والعدم ابتداء أو دواما ، أعني دوامه على العدم الأصلي ، كإنسان لم يوجد بعد ، أو عدمه بعد وجوده ، كإنسان وجد ثم عدم .
فالأول : هو واجب الوجود ، وهو الله سبحانه وتعالى وصفاته الذاتية ، أي : القائمة بذاته ، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام ، ونحوها ، لا غير :
والثاني : وهو المحال الممتنع الوجود ، كالجمع بين الضدين ، كالسواد والبياض في محل واحد ، أو بين النقيضين ، ككون الشيء معدوما موجودا في زمان واحد ، وقد يجب وجود الشيء لغيره ، ويمتنع وجوده لغيره ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى عند ذكر تكليف المحال .
والثالث : وهو ما كان لذاته جائز الوجود والعدم ، يسمى ممكنا ، كالعالم وسائر أجزائه ، ولا بد فيه من سبب آخر يختص بالواجب والممكن ، وهو أن الشيء إن افتقر في وجوده إلى سبب مؤثر فيه خارج عن ذاته ، فهو الممكن الجائز ، وإن لم يفتقر ، فهو الواجب .
وإنما قلنا : إن هذا التقسيم يختص الواجب والممكن ، لأن الممتنع لا وجود له حتى يفتقر إلى مؤثر خارج ، أو يستغني عنه .
ومعنى قولنا : واجب الوجود لذاته أو لغيره ، وهذا موجود لذاته أو لغيره : أن علة وجوده ذاته أو غيره ، ولهذا كان الموجود لذاته دائم البقاء ما دامت ذاته موجودة ، بخلاف ما علة وجوده أمر خارج عن ذاته ، فإنه يزول بزوال علته . [ ص: 58 ]
فإن قيل : فالموجود لذاته لو قدر زوال علته ، وهي ذاته ، لزال .
قلنا : نعم ، لكن ما علة وجوده ذاته لا يمكن زوال علته حتى يزول ، لما تقرر في العلم الكلامي .
وقوله : ويا موجد كل موجود " يعني من الممكنات ، وهو العالم بأسره ، والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدها ، وأفاض عليها وجودها بقدرته . وقوله : " ويا مفيض الخير والجود " الخير : ضد الشر ، وهو ما يلائم الطبع المعتدل السليم ويختاره العاقل ، نعم قد يكون وجه الاختيار في الشيء ظاهرا ، كالعافية الدائمة ، والرئاسة العالية ، والمآكل والمشارب المستطابة ، وقد يكون خفيا كامنا في ضده ، حتى إذا ظهر ، لاح وجه الاختيار فيه ، كالأمراض والعاهات والذل والخمول المفضية إلى الصحة ، والرفعة في العقبى ، وشرب الأدوية الكريهة المفضي إلى زوال العلة ، فهي خيرات باعتبار معناها ومآلها ، وإن كانت شرورا باعتبار صورتها وحالها ، وأفعال الله سبحانه وتعالى في الوجود كلها حكمة وخير ، لكن منها ما ظهر فيه وجه الاختيار ، كالنافع من الحيوان والزروع والثمار ، ومنها ما خفي فيه ذلك كالمضر من السباع وأنواع العقار ، حتى قال بعض من أوجب على الله سبحانه وتعالى رعاية مصالح عباده : إن دخول النار والخلود فيها هو الأصلح للكفار ، وإن كان قولا لا يثبت عند الاعتبار .
والخير من حيث اللفظ مصدر : خار يخير خيرا : إذا صار خيرا ، وخار الله له يخير له خيرا . إذا اختار له ما يوافقه .
ومن حيث المعنى : هو ضد الشر ، وهو ما وافق الغرض بوجه ما ، وهو من [ ص: 59 ] الإضافيات ، أي قد يكون الشيء خيرا من وجه دون وجه .
والجود : مصدر جاد الرجل بماله يجود جودا : إذا بذله لا لعوض ، وأصله من الجود بفتح الجيم ، وهو المطر الغزير ، يقال : جاد المطر يجود جودا .
ومفيض : اسم فاعل من : أفاض يفيض إفاضة ، فهو مفيض ، وحقيقته في الماء ونحوه من المائعات ، يقال : فاض القدح والإناء إذا صببت فيه من المائع حتى امتلأ ، وجعل يتبدد من حافاته ، واستعماله في المعاني ، نحو : أفاض الخير والعطاء ، وأفاضوا في الحديث ، وأفاض الحاج من منى إلى البيت للطواف مجاز ، وهذه المادة بالضاد ، أما قولهم : فاظت نفسه ففيه معنى الفيض إلا أنه بالظاء ، إما ملاحظة لمعنى آخر ، أو فرقا بين فاض الماء وفاظت نفسه ، وكثيرا ما يفرقون باختلاف الحروف بين المعاني والمدلولات ، كقولهم : البيض كله بالضاد إلا بيظ النمل بالظاء .
وقوله : " على كل قاص من خلقه ودان " . القاصي : البعيد ، والداني : القريب . والذي خطر ببالي وقت إنشاء الخطبة القرب والبعد المكاني ، وهو إنما يصح بالنسبة إلى أجزاء العالم من شخص ومكان صحة إضافية ، مثلا من في الشام أقرب إلى من بمصر ممن ببغداد وبلاد المشرق ، وبالعكس من بالشام أقرب إلى من ببغداد ممن بمصر وبلاد المغرب ، وإنما قلنا هذا ، لأن الله سبحانه وتعالى هو أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد ، فلا يقال : إن بعض الأشياء أقرب إليه من بعض ، والله سبحانه وتعالى على [ ص: 60 ] خلاف المشاهدات في القرب والبعد والظهور والبطون ، فهو ظاهر في اختفائه ، باطن في ظهوره ، قريب في بعده ، بعيد في قربه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] .
وأيضا كما لا يقال : إن بعض المخلوقات أهون عليه من بعض ، لا يقال : بعضها أقرب إليه من بعض خصوصا على قول من ينفي الجهة ، أو يقول : إنه بذاته في كل مكان ، فلا يتصور الأقرب والأبعد بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، أما من يثبت الجهة ، فقد يمكن توجيه ذلك على قوله ، ويجوز تخريج الكلام على القرب والبعد بالطاعة والمعصية . فيكون معناه : مفيض الخير على كل قريب إليك ، أي : إلى رحمتك بالطاعة ، وكل بعيد عنك بالمعصية ، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أسبغ إنعامه على المطيع والعاصي ، والمؤمن والكافر ، والبر والفاجر .