أحدها : ما يعلم استثناؤه عن قاعدة القياس كإيجاب الدية على العاقلة مع العلم باختصاص كل امرئ بضمان جناية نفسه ، وإيجاب صاع تمر في المصراة ، مع أن تماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات ، فلا ينتقض به القياس ، ولا يلزم المستدل الاحتراز عنه ، وإن كانت العلة مظنونة كورود العرايا على علة الربا على كل قول فلا ينقض ولا يخصص العلة ، بل على المناظر بيان ورودها على مذهب خصمه أيضا .
الثاني : النقض التقديري : كقوله : رق الأم علة رق الولد فينتقض بولد المغرور بأمه ، هو حر ، وأمه أمة ، فيقال : هو رقيق تقديرا بدليل وجوب قيمته ، ففي وروده نقضا خلاف ، الأشبه لا ، اعتبارا بالتحقيق لا بالتقدير .
تنبيه : لتخلف الحكم عن العلة أقسام " إلى آخره ، لما انقضى الكلام في تخصيص العلة بتخلف حكمها عنها في بعض الصور ، وكان للتخلف أقسام ، بعضها مؤثر في العلة ، وبعضها غير مؤثر; ذكر أقسام التخلف ليتميز بعضها من بعض .
فأحد أقسام التخلف " ما يعلم استثناؤه عن قاعدة القياس كإيجاب الدية " في قتل الخطأ " على العاقلة مع العلم باختصاص كل امرئ بضمان جناية نفسه " ; لقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] وقوله - عليه السلام - : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022400لا يجني جان إلا على نفسه ، وقوله لأبي رمثة عن ابنه : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022401أما إنه [ ص: 328 ] لا يجني عليك ولا تجني عليه وكذلك " إيجاب صاع تمر في المصراة " عوضا عن اللبن المحتلب منها " مع أن تماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات " فكان يقتضي ذلك أن يضمن لبن المصراة بمثله . ولهذا ترك الحنفية العمل بهذا الحديث ، وجعلوه مما يخالف الأصول ، فهذا " لا ينتقض به القياس " يعني : لا تبطل به علته ، لثبوته قطعا بنص الشارع ، ومناسبة العقل ، " ولا يلزم المستدل الاحتراز عنه " في تعلله بأن يقول : كل امرئ مختص بجناية نفسه في غير دية الخطأ ، وتماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات إلا في المصراة ، لأنه إنما يجب الاحتراز عما لو لم يحترز عنه لورد نقضا . وهذا ليس كذلك لما بينا .
" وإن كانت العلة مظنونة كورود العرايا على علة الربا على كل قول " وكل مذهب ; فإن علة تحريم الربا حصول التغابن بالتفاضل في الأموال بين المتعاملين ، والتفاضل واقع في العرايا ، لأنها بيع رطب بتمر ، والتساوي بينهما مجهول ، وهو كالعلم بالتفاضل ، ثم إن العرايا قد جاءت بالاتفاق على كل علة وقول ، سواء علل بعلة الكيل أو الطعم أو القوت أو غير ذلك لاستثناء الشارع لها رخصة ، فهذا " لا ينقض " العلة ، ولا يخصصها " بل [ ص: 329 ] على المناظر وهو المستدل " بيان " أنها واردة " على مذهب خصمه أيضا " إذ لا يلزم الخصم قبول قول المستدل : إن العرايا مستثناة عن علة الربا على كل قول ، بدون إقامة الدليل على ذلك ، لأنه دعوى ، والدعوى لا تقبل إلا بحجة ، فتروى له الأحاديث التي في العرايا وبيان كونها رخصة .
ومن هذا الباب قولهم في اشتراط النية للعبادة : عبادة مفروضة ، فتفتقر إلى تعيين النية ، فلا ينتقض ذلك بالحج حيث جاز الإحرام بما أحرم به زيد من غير تعيين نية ، لأنه ورد على خلاف قياس العبادات; إما لمحافظة الشرع على تحصيله بكل وجه حصل مقصوده ، أو تخفيفا عن المكلف لئلا يلغو حجه ، فيحتاج إلى إعادته ، وربما لا يمكنه في ذلك العام ، فيحتاج إلى إنشاء سفر آخر لفعله مع ما فيه من المشقة والتغرب .
واعلم أن قول الفقهاء : هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس ، أو خارج عن القياس ، أو ثبت على خلاف القياس; ليس المراد به أنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس ، وإنما المراد به أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي .
فمن ذلك أن القياس عدم بيع المعدوم ، وجاز ذلك في السلم والإجارة توسعة وتيسيرا على المكلفين .
ومنه : أن القياس أن كل واحد يضمن جناية نفسه ، وخولف في دية الخطأ رفقا بالجاني ، وتخفيفا عنه ؛ لكثرة وقوع الخطأ من الجناة
وكذلك الكلام في المصراة; لما كان اللبن المحتلب منها مجهولا ، فلو وجب ضمانه بمثله ، لأفضى إلى النزاع لجهالة القدر المضمون ، فقطع [ ص: 330 ] الشارع النزاع بينهم بإيجاب صاع تمر باجتهاده ، لأنه مضبوط معلوم ، وكان ذلك من باب العدل العام ، لأن الشخص تارة يكون آخذا للصاع بتقدير كونه بائعا للمصراة ، وتارة مأخوذا منه بتقدير كونه مشتريا لها ، فما يقع من التفاوت بين قيمة التمر وقيمة اللبن مغتفر في تحصيل هذا العدل العام . وقد حققت هذا في " القواعد الكبرى " والغرض أن كل خارج عن القياس في الشرع في غير التعبدات ، فهو لمصلحة أكمل وأخص ، وهو استحسان شرعي ، وقد سبق في باب الاستحسان أنه أخص من القياس ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
القسم الثاني : من أقسام تخلف الحكم عن العلة ، وإنما سميته " النقض التقديري " لمناسبته ، وذلك بما ذكر في إثباته ، وهو تخلف الحكم عن العلة لا للخلل فيها ، بل لمعارضة علة أخرى أخص ، كقول القائل : " رق الأم علة رق الولد ، فينتقض " عليه " بولد المغرور بأمه " وهو من تزوج امرأة على أنها حرة ، فبانت أمة ، فهذا الولد حر ، مع أن أمه أمة ، فقد تخلف حكم العلة عنها ، فيقول المستدل : هذا الولد وإن كان حرا حكما ، فهو " رقيق تقديرا " أي : في التقدير ، " بدليل وجوب قيمته " على أبيه لسيد أمه ، ولولا أن الرق فيه حاصل تقديرا ، لما وجبت قيمته ، إذ الحر لا يضمن بالقيمة .
قلت : ومعنى قولنا : تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى ، هو أن هذا الولد تنازعه علتان : إحداهما علة الرق تبعا لأمه ، والثانية علة الحرية تبعا لاعتقاد [ ص: 331 ] أبيه حريته ، فثبت مقتضى هذه العلة ، وهو الحرية تحقيقا; تحصيلا للحرية تغليبا لجانبها ، لأنها الأصل ، وثبت مقتضى علة الرق تقديرا ، جبرا لما فات على السيد من إتلاف مالية الولد عليه ، إذ سبب إتلافه اعتقاد الأب حريته ، فضمن ما أتلف ، " ففي وروده نقضا " أي : في ورود هذا النقض التقديري على العلة بحيث يبطلها " خلاف ، الأشبه لا " يرد " اعتبارا بالتحقيق لا بالتقدير " .
هكذا وقع في " المختصر " وهو سهو ، والصواب العكس ، وهو أن الأشبه لا يرد اعتبارا بالتقدير لا بالتحقيق ، لأن انتقاض العلة بولد المغرور إنما يندفع بتقدير كونه رقيقا ، والرق فيه إنما ثبت تقديرا لا تحقيقا ، إذ هو في التحقيق حر ، فتنتقض العلة . وهذا الخلاف ليس في " الروضة " ولا " المستصفى " إنما فيهم عدم الانتقاض فقط ، ولكن أنا نقلت الخلاف من غيرهما أحسبه الحاصل .
وإنما قلنا : إن الأشبه عدم الانتقاض ، لأن تخلف حكم العلة عنها لا لعدم عليتها بدليل اطرادها في بقية الصور ، بل لمعارضة العلة الأخرى لها ، فأحيل التخلف عليها ، وصار كما سبق من تخلف الحكم عن العلة لمانع ، وإنما خرج الخلاف هاهنا واتجه; لأن معنا حالتي تحقيق وتقدير ، فبالنظر إلى حالة التحقيق ، وهي الحكم بحرية الولد تكون العلة منتقضة ، وبالنظر إلى حالة التقدير ، وهو كونه في معنى الرقيق تقديرا بدليل ضمانه بقيمته ، تسلم ولا تنتقض ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .