الثالث : ذكر الحكم جوابا لسؤال يفيد أن السؤال أو مضمونه علته ، كقوله : " أعتق رقبة " في جواب سؤال الأعرابي ، إذ هو في معنى : حيث واقعت ، فأعتق ، وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة .
و " الثاني " : أي : النوع الثاني من أنواع الإيماء " ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء " أي : بصيغة الشرط والجواب ، " نحو " قوله - عز وجل - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 2 ] ، أي : لأجل تقواه ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، أي : لأجل " توكله ، لتعقب الجزاء الشرط " أي : لأن الجزاء يكون عقيب الشرط في اللغة . وقد ثبت بما سبق أن السبب ما ثبت الحكم عقيبه ، فإذن الشرط في مثل هذه الصيغ سبب الجزاء ، فيكون الشرط اللغوي سببا وعلة . وقد سبق أن الشروط اللغوية أسباب .
فائدة : اعلم أن في باب الشرط والجزاء لا يكون ما بعد الفاء إلا حكما وما قبلها سبب ، لأن جواب الشرط متأخر عن الشرط في وضع اللغة تحقيقا ، نحو : إن كنت مؤمنا ، فاتق الله ، أو تقديرا ، نحو : اتق الله إن كنت مؤمنا ، [ ص: 368 ] والسبب في ذلك أن الشرط لازم ، والمشروط ملزوم ، والملزوم إنما يكون بعد اللازم ، وثبوته فرع على ثبوته ، واعتبر ذلك بالمحسوس ، كالجدار والسقف ، فإن السقف إنما يوجد بعد وجود الجدار ، والإنسان إنما يعقل بعد تعقل الحيوان اللازم له .
أما ما سبق ، فإن ما بعد الفاء قد يكون حكما نحو : قل هو أذى فاعتزلوا [ البقرة : 222 ] ، وقد يكون علة ، نحو : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022423لا تقربوه طيبا ، فإنه يبعث ملبيا ، فإن بعثه ملبيا هو علة تجنيبه الطيب . وهذا عند التحقيق يرجع إلى باب الشرط والجزاء ، لأن الأمر والنهي قد يتضمنان الشرط ، فيجزم جوابهما ، نحو قوله - عز وجل - : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ مريم : 5 - 6 ] ، أي : هب لي ، فإنك إن تهب لي وليا يرثني . وقولك : لا تقرب الشر ، تنج ، أي : لا تقربه ، فإنك إن لا تقربه ، تنج . وتدخل الفاء في جوابهما ، كقوله : لا تقربوه طيبا فإنه يبعث أي : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022424من مات محرما ، فإنه يبعث ملبيا ، فلا تقربوه طيبا . وقوله : زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون أي : من مات شهيدا ، فإنهم يحشرون تشخب أوداجهم ، فزملوهم ، فالظاهر استواء الصيغ جميعها في تأخر الحكم وترتبه على الوصف ، لأن الحكم إما مسبب أو مشروط ، وهو مسبب أيضا ، وكلاهما متأخر . نعم بعض ذلك متأخر تحقيقا ، وبعضه تقديرا كما ذكرنا .
" الثالث " : أي : النوع الثالث من أنواع الإيماء : " ذكر الحكم جوابا لسؤال [ ص: 369 ] يفيد أن السؤال " المذكور " أو مضمونه " هو علة الجواب المذكور ، كقوله - عليه السلام - في جواب قول الأعرابي : واقعت أهلي في نهار رمضان : " nindex.php?page=hadith&LINKID=1022425أعتق رقبة " لأن ذلك " في معنى " قوله : " حيث واقعت " أهلك ، " nindex.php?page=hadith&LINKID=1022426فأعتق رقبة " ؛ لأن السؤال في تقدير الإعادة في الجواب كما لو قيل : جاء العدو فقال : اركبوا ، أو : فلان واقف يسأل ، فقال : أعطوه ، إذ التقدير : حيث جاء العدو ، فاركبوا ، وحيث جاء فلان يسأل ، فأعطوه .
قوله : " وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة " أي : لو لم يعلل الجواب بالسؤال ، لكان الجواب غير مرتبط بالسؤال ، ولو كان غير مرتبط به ، لخلا السؤال عن جواب . وحينئذ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأن السائل إنما يسأل ليتبين له الحكم ، والتقدير أنه لم يجب عن سؤاله ، وأيضا يلزم أن أمره بعتق رقبة ثبت تعبدا ، وهو خلاف الأصل ، أو أنه حكم ثبت بغير سبب ، وهو محال ، ولا سبب يحال عليه الحكم إلا سؤال السائل ، فوجب أن يضاف إليه ، ويعلل به .
" الرابع " : أي : النوع الرابع من أنواع الإيماء إلى العلة " أن يذكر " الشارع " مع الحكم " شيئا " لو لم يعلل " الحكم " به " لكان ذكره لاغيا ، فيجب تعليل الحكم بذلك الشيء المذكور معه " صيانة لكلام الشارع عن اللغو " إذ الدليل القاطع دل على عصمته من ذلك ، وهو ضربان :
أحدهما : أن يسأل في الواقعة عن أمر ظاهر لا يخفى عن عاقل ، ثم يذكر [ ص: 370 ] الحكم عقيبه ، فيدل على أن ذلك الأمر المسئول عنه علة الحكم المذكور .
مثاله : لما سئل عن بيع الرطب بالتمر ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022427أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن فهذا " استفهام تقريري " أي : على جهة التقرير ، لكونه ينقص إذا يبس ، كقوله - سبحانه وتعالى - : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] ، ليقرر عنده أنها عصا لئلا يتردد عند انقلابها حية ، أو على جهة التأنيس ، وليس هذا من باب الاستعلام ، إذ من المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي : في هذا الحديث تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه :
أحدها : ما سبق من أنه لا معنى لذكر هذا الوصف إلا التعليل به .
الثاني : قوله : " إذن " فإنه للتعليل .
قلت : وبيانه أن تقدير الكلام : إذ الأمر كذلك فلا تبيعوه ، أو فلا تفعلوا إذن .
الثالث : الفاء في قوله : فلا ، إذ هي للتعقيب والسبب كما سبق ، كأنه جعل النقص الموجب للتفاضل سبب المنع .