[ ص: 395 ] وللجنسية مراتب : فأعمها في الوصف : كونه وصفا ، ثم مناطا ، ثم مصلحة خاصة ، وفي الحكم : كونه حكما ، ثم واجبا ونحوه ، ثم عبادة ، ثم صلاة .
وتأثير الأخص في الأخص أقوى ، وتأثير الأعم في الأعم يقابله ، والأخص في الأعم ، وعكسه واسطتان .
وقيل : الملائم : ما ذكر في الغريب ، والغريب : ما لم يظهر تأثيره ، ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع ، نحو : حرمت الخمر لكونها مسكرا ، وترث المبتوتة في مرض الموت معارضة للزوج بنقيض قصده كالقاتل ، إذ لم نر الشرع التفت إلى ذلك في موضع آخر ، بل هو مجرد مناسب، اقترن الحكم به .
وقصر قوم القياس على المؤثر ، لاحتمال ثبوت الحكم في غيره تعبدا ، أو لوصف ثم لم نعلمه ، أو لهذا الوصف المعين ، فالتعيين به تحكم .
ورد بأن المتبع الظن وهو حاصل باقتران المناسب ، ولم تشترط الصحابة - رضي الله عنهم - في أقيستهم كون العلة منصوصة ولا إجماعية .
قوله : " وللجنسية مراتب " إلى آخره .
اعلم أنه لما تقرر أن الوصف مؤثر في الحكم ، والحكم ثابت بالوصف ، ومسمى الوصف والحكم جنس تختلف أنواع مدلوله بالعموم والخصوص ، كاختلاف أنواع مدلول الجسم والحيوان وغيرهما من الأجناس كما تقرر أول الكتاب ، ولهذا اختلف تأثير الوصف في الحكم تارة بالجنس ، [ ص: 396 ] وتارة بالنوع; احتجنا إلى بيان مراتب جنس الوصف والحكم ومعرفة الأخص منها من الأعم ، ليتحقق لنا معرفة أنواع تأثير الأوصاف في الأحكام .
فأعم مراتب " الوصف كونه وصفا " لأنه أعم من أن يكون مناطا للحكم ، أو لا يكون ، إذ بتقدير أن يكون طرديا غير مناسب لا يصلح أن يناط به حكم ، فكل مناط وصف ، وليس كل وصف مناطا ، " ثم " كونه " مناطا " لأنه أعم من أن يكون مصلحة أو لا ، فكل مصلحة مناط للحكم ، وليس كل مناط مصلحة; لجواز أن يناط الحكم بوصف تعبدي ، لا يظهر وجه المصلحة فيه ، وكلامنا في المصلحة في ظاهر الأمر ، أما في نفس الأمر ، فلا يخلو تصرف الشرع عن مصلحة . " ثم " كون الوصف " مصلحة " لأنها قد تكون مصلحة عامة ، بمعنى أنها متضمنة لمطلق النفع ، وقد تكون " خاصة " بمعنى كونها من باب الضرورات والحاجات أو التكملات والتتمات ، كما سبق تقريره في الاستصلاح .
وأما الحكم ، فأعم مراتبه " كونه حكما " لأنه أعم من أن يكون وجوبا أو تحريما أو صحة أو فسادا . " ثم " كونه " واجبا ونحوه " أي : من الأحكام الخمسة ، وهي الواجب والحرام والمكروه والمندوب والمباح ، وما يلحق بذلك من الأحكام الوضعية كما سبق ، إذ الواجب أعم من أن يكون عبادة اصطلاحية أو غيرها . " ثم " كونه " عبادة " لأنها أعم من الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات ، " ثم " كونه " صلاة " إذ كل صلاة عبادة ، وليس كل عبادة صلاة .
[ ص: 397 ] قال القرافي : أعم أجناس الحكم كونه حكما ، وأخص منه كونه طلبا أو تخييرا ، وأخص منه كونه تحريما أو إيجابا ، وأخص منه كونه تحريم الخمر أو إيجاب الصلاة ، وأعم أحوال الوصف كونه وصفا ، وأخص منه كونه مناسبا ، وأخص من المناسب كونه معتبرا ، وأخص منه كونه مشقة أو مصلحة أو مفسدة خاصة ، ثم أخص من ذلك كون تلك المفسدة في محل الضرورات أو الحاجات أو التتمات . قال : فبهذا الطريق تظهر الأجناس العالية والمتوسطة ، والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من المناسب وغيره ، فالإسكار نوع من المفسدة ، والمفسدة جنس له ، والأخوة نوع من الأوصاف ، والتقديم في الميراث نوع من الأحكام ، فهي تأثير نوع في نوع .
قلت : هذا الذي ذكره في تقسيم مراتب الحكم والوصف أحسن مما في " المختصر " وإن كان المقصود واحدا ، والمعنى متقاربا .
قوله : " وتأثير الأخص في الأخص " إلى آخره ، أي : لما عرف بما ذكرناه الأخص والأعم من الأوصاف والأحكام; فليعلم أن تأثير بعضها في بعض يتفاوت في القوة والضعف ، فتأثير " الأخص في الأخص أقوى " أنواع التأثير ، كمشقة التكرار في سقوط الصلاة ، والصغر في ولاية النكاح ، " وتأثير الأعم في الأعم " يقابل ذلك ، فهو أضعف أنواع التأثير ، وتأثير " الأخص في الأعم وعكسه " وهو تأثير الأعم في الأخص " واسطتان " بين ذينك الطرفين ، إذ في كل واحد منهما قوة من جهة الأخصية ، وضعف من جهة الأعمية ، [ ص: 398 ] بخلاف الطرفين ، إذ الأول تمحضت فيه الأخصية ، فتمحضت له القوة ، والثاني تمحضت فيه الأعمية ، فتمحض له الضعف . وأشرت بعبارة " المختصر " إلى قول الشيخ أبي محمد في هذا المكان . فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة ، وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب ، وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الحكم .
قلت : لأن التأثير في الأخص أقوى من تحصيل ظن حصول الحكم المطلوب .
قوله : " وقيل : الملائم ما ذكر في الغريب " إلى آخره .
هذا قول آخر في الملائم ، وهو أنه " ما ذكر في الغريب " وهو ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم ، لأن الالتفات إليه معروف من الشارع ، فيكون ملائما لتصرفه .
أما " الغريب " ; فهو : " ما لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع ، نحو " قولنا : " حرمت الخمر ، لكونها مسكرا " فيلحق به كل مسكر ، بتقدير أن لا يرد في ذلك نص ، ولا إجماع ، وترث المبتوتة في مرض الموت معارضة للزوج بنقيض قصده ، كالقاتل " موروثه ، لأنا " لم نر الشرع التفت إلى " مثل " ذلك في موضع آخر " يشهد له بالاعتبار ، " بل هو مجرد مناسب " أي : مناسب مجرد عن الشهادة له بالاعتبار . " اقترن الحكم به " ومجرد الاقتران لا يكفي في ثبوت العلية .
قلت : الذي تضمنه " المختصر " وأصله : أن الوصف المناسب ثلاثة أنواع : مؤثر وملائم وغريب . وفي جميعها خلاف .
والثاني : أنه ما لم يظهر تأثيره ، ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع . وذكر البروي في " المقترح " أن المؤثر ما دل النص أو الإجماع على اعتبار عينه في عين الحكم ، والملائم هو الأقسام الثلاثة الأخر .
وقال الشيخ رشيد الدين الحواري : العلل خمس ، وذكر ستا : المؤثر ، والملائم ، والغريب ، والشبه ، والمخيل ، والمصلحة المرسلة ، فلعله ذكرها سادسة بالنسبة إلى من يقول بها ، كمالك - رحمه الله تعالى - . ثم ذكر أن المؤثر [ ص: 400 ] ما عرف كونه علة بنص أو إجماع . قال : وعند الفقهاء ببخارى ومرو وهو ما كان مناسبا . قال : وفي اصطلاحنا ما عرف تأثير عين العلة في عين الحكم ، والملائم ما عرف تأثير نوعه في نوع الحكم ، كتأثير نوع الجناية في نوع العقوبة ، والغريب ما أثر جنسه في جنس الحكم .
قلت : وهذا كله اختلاف اصطلاحي بدليل ما حكى الحواري من اختلاف الأصوليين والفقهاء المروزيين وبينه من الخلاف في المؤثر ، وكذلك أمثلة أنواع التأثير ، وربما كان بعضها مطابقا ، وربما كان غير مطابق .
والتحقيق في هذا الباب أنك إذا عرفت مراتب الأوصاف والأحكام في العموم والخصوص ، وأن الخصوص جهة قوة والعموم ضعف كما تقدم تحقيقه . فانظر في مراتب التأثير الواقعة لك ، فإن أقواها من أضعفها بعد ذلك لا يخفى عليك ، وسم أنواعها ما شئت ، ولا ترتبط بتسمية غيرك ولا تمثيله ، وإنما ذكرنا تسميتهم تعريفا لاصطلاحهم وبعض أمثلتهم التي ضربوها لأنواع التأثير ثابتا للناظر ، والأمر أضبط من ذلك .
فائدة : قد سبق أن المناسب المصلحي إما أن يعلم من الشارع اعتباره ، أو إلغاؤه ، أو لا يعلم منه واحد منهما ، والمنقسم إلى المؤثر والملائم والغريب ، هو الأول ، وهو المناسب الذي علم اعتباره دون الآخرين إلا المناسب المرسل عند مالك .
وإذا عرف هذا فبعض الأصوليين يطلق القول بأن المؤثر ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم ، وبعضهم يشترط مع تأثير العين في العين تأثير الجنس في الجنس ، وما سوى ذلك وهو ما أثر عينه في عين الحكم فقط ، أو جنسه في جنسه فقط; فهو مناسب غريب .
[ ص: 401 ] مثال الأول : قولنا في القتل بالمثقل : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص كالقتل بالمحدد ، فقد ظهر تأثير عين القتل في عين القصاص ، وتأثير جنس الجناية في جنس العقوبة ، فالجناية جنس للقتل ، والعقوبة جنس للقصاص ، وكذلك قولنا في أن البيع بشرط الخيار ينقل الملك : بيع صدر من أهله ، وصادف محله ، فنقل الملك قياسا على ما إذا لم يشرط ، فقد ظهر تأثير البيع الصادر من الأهل في المحل في نقل الملك ، وهو تأثير عين الوصف في عين الحكم ، وكذلك تأثير جنس البيع ، وهو التصرف ، ظهر في جنس نقل الملك ، وهو تحصيل الغرض ، فالتصرف جنس للبيع ، وحصول الغرض جنس للملك .
ومثال ما أثر عينه في عين الحكم ولم يشهد له أصل باعتبار جنسه في جنس الحكم تعليل تحريم الخمر بالإسكار بتقدير أن لم يرد قوله - عليه السلام - : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022437كل مسكر حرام ، فهاهنا إنما أثر عين وصف الإسكار في عين تحريم الخمر ، ولا شاهد له باعتبار جنس الإسكار في جنس التحريم .
قلت : وهذا يمكن منعه لأن جنس السكر أو الإسكار المفسدة أو سببها ، وجنس التحريم الحكم ، وقد ظهر تأثير جنس المفسدة في جنس الحكم كثيرا جدا كما سبق ، وحينئذ يكون ما اعتبره هؤلاء لازما مما قلناه أولا ، أعني بأن تأثير العين في العين يستلزم تأثير الجنس في الجنس ، بحيث لا يتصور بدونه ، لأن تأثير العين في العين أخص من تأثير الجنس في الجنس ، والأخص يستلزم الأعم ، اللهم إلا أن يكون الوصف الذي أثر عينه في عين الحكم هو جنس الوصف الأعلى أثر في جنس الحكم الأعلى ، فهاهنا تأثيره لا يستلزم تأثير غيره للتعذر ، إذ ليس فوق الجنس الأعلى ما يستلزمه .
[ ص: 402 ] وجعل nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي الوصف المؤثر ما كان معتبرا بنص أو إجماع ، والملائم ما أثر عينه في عين الحكم ، وجنسه في جنس الحكم ، والغريب القسمين الآخرين .
قلت : وبالجملة متى رأينا الوصف المناسب قد أثر نوعا من التأثير ، وغلب على الظن ثبوت الحكم لأجله ، وجب القول بإضافته إليه وربطه به ، بل نفس ظهور تأثير المناسب نوعا يفيد الظن المذكور ، كمن رأيناه قابل الإحسان بالإحسان ، والإساءة بالإساءة في وقت ما ، ولم يعهد من حاله قبل ذلك شيء مما يرجع إلى المكافأة وعدمها ، غلب على الظن أنه قصد المكافأة حملا لتصرفه على ظاهر الحكمة . وهذا التقدير يقتضي القول بالمناسب المرسل ، وقد سبق الكلام فيه .
قوله : " وقصر قوم القياس على المؤثر " إلى آخره .
يعني أنه قد ذهب قوم من الأصوليين إلى أن القياس لا يصح إلا بجامع وصف مؤثر في الأصل ـ وقد علم ما المؤثر ـ وشبهتهم في ذلك أنا لو أجزنا القياس بجامع غير مؤثر كالملائم والغريب ، للزم التحكم والترجيح من غير مرجح وهو باطل .
وبيان ذلك أنا مثلا لو قسنا النبيذ على الخمر بعلة الإسكار على تقدير عدم ورود النص بالنبيذ لاحتمل أن يكون تحريم الخمر تعبدا غير معلل ، كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ، واحتمل أن يكون تحريمها لوصف آخر مناسب لم يظهر لنا ، واحتمل أن يكون لهذا الوصف المعين وهو الإسكار ، وإذا احتمل المقتضي لتحريمه هذه الأمور ، كان تعيين بعضها لإضافة التعيين إليه تحكما . وأما بطلان التحكم ، فظاهر . وحينئذ يجب قصر القياس على الجامع المؤثر ، لأن تأثيره ثبت بالنص [ ص: 403 ] أو ما دل عليه ، وهو الإجماع ، فلا يتردد بين الاحتمالات ، فالتحكم فيه مأمون .
قوله : " ورد " إلى آخره . أي : ورد قول هؤلاء المذكورين بوجهين :
أحدهما : أن اقتران الحكم بالوصف الملائم والغريب يفيد الظن بأنه سببه ومقتضيه ، والظن واجب الاتباع في العمليات ، والمقدمتان ظاهرتان ، فوجب القول باعتبارهما .
الوجه الثاني : أنا علمنا قطعا من تصرف الصحابة - رضي الله عنهم - في الأقيسة أنهم ربطوا الأحكام بالأوصاف المناسبة ، ولم يشترطوا " كون العلة منصوصة ولا إجماعية " ولو كان ذلك مشترطا ، لما تركوا اعتباره ، وإلا للزم القدح في العصمة النبوية ، إذ كانوا هم كل الأمة حينئذ . فلو تركوا ما هو مشترط في الاجتهاد ، لأجمعوا على الخطأ ، ولزم وقوع الخبر النبوي مخالفا لمخبره ، وهو قدح في العصمة ، والله تعالى أعلم .