[ ص: 412 ] النوع الثالث الدوران : وهو وجود الحكم بوجود الوصف ، وعدمه بعدمه وخالف قوم .
لنا : يوجب ظن العلية فيتبع
قالوا : الوجود للوجود طرد محض غير مؤثر ، والعكس لا يعتبر هنا ، ثم المدار قد يكون لازما للعلة ، أو جزءا فتعيينه للعلية تحكم .
قلنا : عدم تأثيرهما منفردين لا يمنع تأثيرهما مجتمعين ، ثم العكس وإن لم يعتبر ، ولكن ما أفاده من الظن متبع ، واحتمال ما ذكرتم لا ينفي إفادة الظن ، وهو مناط التمسك ، وصحح القاضي ، وبعض الشافعية التمسك بشهادة الأصول المفيدة للطرد والعكس ، نحو : من صح طلاقه ، صح ظهاره ، ومنع ذلك آخرون ، والله تعالى أعلم .
قال القرافي : هو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه ، قال : وفيه خلاف ، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقولون بكونه حجة .
قلت : وبعضهم يعبر عن الدوران بالطرد والعكس ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي قال : [ ص: 413 ] وقد اختلف فيه ، فمنهم من قال : يدل على العلية ، لكن منهم من قال : يدل عليها قطعا ، كبعض المعتزلة ، ومنهم من قال : ظنا ، كالقاضي أبي بكر ، وكثير من أبناء زماننا ، ومنهم من قال : لا يدل على العلية لا قطعا ولا ظنا ، قال : وهو المختار .
مثال ذلك الخمر; حين كونه مسكرا حرام ، فهذا اقتران وجود الحكم بوجود الوصف ، ولما كانت عصيرا ، وبعد أن صارت خلا بالاستحالة ، ليست مسكرة ، فليست حراما ، فهذا اقتران العدم بالعدم .
وقد يكون الدوران في صورة واحدة كما ذكر في الخمر ، وقد يكون في صورتين ، كقولهم في وجوب الزكاة في حلي الاستعمال المباح : العلة الموجبة للزكاة في كل من النقدين كونه أحد الحجرين ، لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين ولا زكاة فيه ، لكن الدوران في صورة أقوى منه في صورتين على ما هو مدرك ضرورة أو نظرا ظاهرا .
قوله : " لنا " أي : على أن الدوران يفيد العلية هو أنه " يوجب ظن العلية " فيجب اتباعه ، أما أنه يفيد ظن كون الوصف علة ، فلدليل العرف والشرع; أما دليل العرف ، فإن من ناديناه باسم ، فغضب ، ثم سكتنا عنه ، فزال غضبه ، ثم ناديناه فغضب ، وتكرر ذلك منه; حصل لنا العلم فضلا عن الظن بأن علة غضبه ذلك الاسم ، وأيضا فإن هذا شأن العلل العقلية ، والأصل حمل الشرعيات عليها ما لم يقم فارق بين البابين ، فإن الكسر مثلا يوجد [ ص: 414 ] الانكسار بوجوده ، ويعدم بعدمه ، وبمثل ذلك علم الأطباء ما علموه من قوى الأدوية وأفعالها ، كالأدوية المسهلة والقابضة وغيرها ، حيث دارت آثارها معها وجودا وعدما . وكذلك القائلون بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس لما رأوه يكمل بمقابلتها ، وينقص بمقاربتها لغلبتها عليه ، وإن كان هذا من باب الحدس المحتمل; إلا أن مستنده الدوران ، ومستند كثير من أمور الدنيا والآخرة .
وهذا عين الاستدلال بالدوران ، أي : إنا إذا استعملناك ، أهدي لك ، وإذا لم نستعملك لم يهد لك ، فعلة الهدية لك استعمالنا إياك ، فثبت بهذا أنه يوجب ظن العلية . وأما أنه إذا وجب ظن العلية ، وجب اتباعه ، فلأن الظن متبع في العمليات بما عرف في الدليل على إثبات القياس من أنه يتضمن دفع ضرر مظنون .
أحدهما : أن الاحتجاج إما أن يكون بوجود الحكم عند وجود الوصف ، أو بانتفائه عند انتفائه ، وهو العكس ، فإن كان بالأول ، فهو " طرد محض غير مؤثر " كما تقرر ، وإن كان بالثاني كانتفاء التحريم عند انتفاء الإسكار ، فالعكس [ ص: 415 ] لا يعتبر في العلل الشرعية . وحينئذ لا ينبغي الاعتماد على الدوران .
الوجه الثاني : أن " المدار " هو ما يدور معه الحكم وجودا وعدما قد يكون علة الإسكار ، و " قد يكون لازما للعلة " كالحمرة والميعان والقذف بالزبد ، وقد يكون " جزءا " للعلة كالعمدية أو العدوانية في علة القصاص ، وإذا كان مدار الحكم محتملا لهذه الأمور ، فتعيينه لكونه علة تحكم ، وترجيح من غير مرجح .
وبالجملة فالشيء قد يدور مع ما ليس علة ، كحركة الأفلاك مع الكواكب ، وليست علة لها ، والجوهر والعرض كل منهما دائر مع الآخر ، وليست علة له ، وحينئذ لا تحصل الثقة بالدوران ، فلا يعتمد عليه .
قوله : " قلنا " أي : الجواب عما ذكرتم; أما عن الوجه الأول ، فمن وجهين :
أحدهما : أن " عدم " تأثير الطرد والعكس " منفردين " أي : كل منهما حال انفراده " لا يمنع تأثيرهما مجتمعين " لأن التركيب يفيد ما لا يفيده الإفراد . وحاصل هذا أنه جواب بمنع الحصر ، لأن قولهم : إما بالوجود عند الوجود أو بالعدم عند العدم تقسيم غير حاصر ، فقولنا : لا نسلم الحصر فيما ذكرتم بالاحتجاج بمجموع الأمرين ، ولا نسلم عدم تأثيره .
الوجه الثاني : أن العكس عن العلة قد روي عن أحمد ما يدل على اعتباره حيث قال : لا تكون العلة علة حتى يقبل الحكم بإقبالها ، ويدبر بإدبارها ، فعلى هذا يمنع أن العكس لا يعتبر . وحينئذ لا يلزم إلغاء الدوران .
وبتقديم التسليم - وهو المشهور - نقول : " العكس " في العلة وإن كان غير معتبر بمعنى أنه لا تتوقف صحة العلة عليه ، غير أنه يفيد بانضمامه إلى [ ص: 416 ] الطرد ظنا بأن الوصف علة ، فيجب اتباع ما أفاده من الظن عملا بالدليل العام في ذلك . وقد يحصل الترجيح والتكميل بما ليس مستقلا بالاعتبار .
وأما الجواب عن الوجه الثاني ، وهو احتمال دوران الحكم مع جزء علته أو شرطها ، فبأن نقول : " احتمال " ذلك " لا ينفي إفادة الظن " بأن مدار الحكم علة على ما سبق بدليل العقل والعرف والشرع ، وإفادة الظن بذلك هي " مناط التمسك " في هذا الباب ، وإذا كان احتمال ما ذكرتموه لا ينفي حصولها ، لم يضرنا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
وهاهنا طريقة في إثبات المطلوب ، لكنها معارضة بمثلها ، وصورتها أن يقال : بعض الدورانات حجة قطعا كدوران قطع الرأس مع الموت في جاري العادة ، فلتكن جميع الدورانات حجة قطعا تسوية وعدلا بين القسمين ، وإحسانا إلى المكلفين بعدم الاختلاف بينهم وبتوفير خواطرهم على النظر في مدار فروق الأحكام عملا بقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] ، وعورض ذلك بأن بعض الدورانات ليس بحجة قطعا كما سبق ، فليكن جميعها كذلك تسوية بين القسمين ، ولأن بعضها لو كان حجة ، لورد نقضا على ما ليس بحجة منها ، والنقض على خلاف الأصل ، وهذه الطريقة شبهية خيالية من الطرفين ، فلا معول عليها ، وإنما ذكرناها على جهة تدريب الناظر بتركيب الحجج ، إذ هذه الطريقة من أحسنها صورة ووصفا .
قوله : " وصحح القاضي وبعض الشافعية التمسك بشهادة الأصول المفيدة [ ص: 417 ] للطرد والعكس " إلى آخره . أي : اختلف في التمسك بشهادة الأصول المفيدة للطرد والعكس ، كقولنا في تصحيح ظهار الذمي : " من صح طلاقه ، صح ظهاره " كالمسلم ، وفي عدم وجوب الزكاة في الخيل : ما لا تجب الزكاة في ذكورته منفردة لا تجب في ذكوره وإناثه ، ويستدل على صحة ذلك بالاطراد والانعكاس ، فالإبل والبقر والغنم وجبت في ذكورها منفردة ، فوجبت في ذكورها وإناثها ، والحمر والبغال لم تجب في ذكورها فلم تجب في ذكورها وإناثها ، فكذا ينبغي أن يقال في الخيل .
فحاصل هذا أن صحة طلاق الذمي شاهد لصحة ظهاره ، وعدم وجوب الزكاة في ذكور الخيل شاهد لعدمها في ذكورها وإناثها ، فذهب القاضي أبو يعلى وبعض الشافعية إلى صحة التمسك بهذا الطريق لشبهه بالدوران وتحصيله غلبة الظن بجامع الطرد والعكس .
وذهب آخرون إلى عدم صحة التمسك به ، لأن شهادة الأصل ليس نصا في العلية ولا إجماعا ولا مؤثرا ولا ملائما ، ولا مناسبا غريبا ولا مرسلا ، إنما هو مخيل تخييلا شبهيا أن الفرع المشهود له مشتمل على علة الأصل الشاهد ، والظن الحاصل من التخيل إن حصل ضعيف جدا ، فلا يناط به حكم ، ولا يكون معولا عليه .
قلت : التحقيق في هذا أنه يختلف باختلاف النظار والمجتهدين قوة وضعفا ، وباختلاف الأصول الشاهدة كثرة وقلة ، فمتى كان هذا الطريق مفيدا من الظن ما يساوي ما يفيده دليل آخر متفق عليه بين الفريقين المختلفين فيه ، كخبر الواحد أو العموم أو القياس الجلي ونحوه; صح التمسك به ، إذ قد يتفق ناظر فاضل مرتاض ، فتظهر له أصول كثيرة شاهدة للفرع المتنازع فيه [ ص: 418 ] حتى يكاد يجزم أن حكم هذا الفرع حكم تلك الأصول ، فهذا يجب عليه المصير إلى ما ظنه من ذلك إن كان مجتهدا لنفسه ، وإن كان مناظرا ، أمكنه إبراز تلك الشواهد لخصمه ، وقرب ما ادعاه إلى ذهنه بالمقدمات الظاهرة المقبولة حتى يحصل له الظن بذلك ، فيسلم ، والله تعالى أعلم .