[ ص: 467 ] الثاني : فساد الاعتبار ، وهو مخالفة القياس نصا ، كحديث معاذ - رضي الله عنه - ، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - ، لم يقيسوا إلا مع عدم النص .
وجوابه بمنع النص ، واستحقاق تقديم القياس عليه ، لضعفه ، أو عمومه ، أو اقتضاء مذهب له .
السؤال " الثاني : فساد الاعتبار ، وهو مخالفة القياس نصا " أي : يكون القياس مخالفا للنص أو الإجماع ، وسمي هذا فساد الاعتبار ، لأن اعتبار القياس مع النص أو الإجماع; اعتبار له مع دليل أقوى منه ، وهو اعتبار فاسد وظلم ؛ لأنه وضع له في غير موضعه .
مثال ما خالف نص الكتاب : قولنا : يشترط تبييت النية لرمضان ، لأنه صوم مفروض ، فلا يصح تبييته من النهار كالقضاء ، فيقال : هذا فاسد الاعتبار ، لمخالفته نص الكتاب ، وهو قوله تعالى : والصائمين والصائمات . . . . . . أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، فإنه يدل على أن كل من صام يحصل له الأجر العظيم ، وذلك مستلزم للصحة ، وهذا قد صام ، فيكون صومه صحيحا .
ومثال ما خالف السنة قولنا : لا يصح السلم في الحيوان ، لأنه عقد يشتمل على الغرر ، فلا يصح ، كالسلم في المختلطات ، فيقال : هذا فاسد [ ص: 468 ] الاعتبار ، لمخالفة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في السلم .
ومثال ما خالف الإجماع أن يقول الحنفي : لا يجوز أن يغسل الرجل زوجته ، لأنه يحرم النظر إليها ، فحرم غسلها كالأجنبية فيقال له : هذا فاسد الاعتبار ، لمخالفته الإجماع السكوتي ، وهو أن عليا غسل فاطمة ، ولم ينكر عليه ، والقضية في مظنة الشهرة ، فكان ذلك إجماعا كما سبق في بابه .
قوله : " كحديث معاذ - رضي الله عنه - " إلى آخره . هذا دليل على أن الاستدلال بقياس يخالف النص فاسد الاعتبار ، وهو من وجهين :
أحدهما : أن معاذا - رضي الله عنه - في حديثه المشهور الذي سبق ذكره ، أخر القياس عن النص ، وصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدل على أن رتبة القياس بعد النص ، فتقديمه عليه يجب أن يكون باطلا ، وهو المراد بفساد الاعتبار .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - على كثرة اجتهاداتهم وفتاويهم ، لم ينقل عنهم أنه قاسوا ، " إلا مع عدم النص " وكانوا يتساءلون عن النصوص ، فإذا وجدوها ، لم يعدلوا عنها ، وذلك يدل على ما ذكرناه .
[ ص: 469 ] وثم وجه ثالث لم يذكر في " المختصر " هاهنا ، لكنه ذكر قبل ، وهو أن الظن المستفاد من كلام صاحب الشرع أقوى من الظن المستفاد من القياس والرأي .
قوله : " وجوابه بمنع النص " إلى آخره ، أي : وجواب فساد الاعتبار ، أو جواب المعترض المورد له من وجهين :
أحدهما : منع النص الذي ادعى أن القياس على خلافه; إما منع دلالة ، أو منع صحة .
مثال الأول : أن يقول في مسألة الصوم : لا نسلم أن الآية تدل على صحة الصوم بدون تبييت النية ، لأنها مطلقة ، وقيدناها بحديث : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022074لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ، أو يقول : إنها دلت على أن الصائم يثاب ، وأنا أقول به ، لكنها لا تدل على أنه لا يلزمه القضاء . والنزاع فيه ، أو يقول : إنها دلت على ثواب الصائم ، وأنا لا أسلم أن الممسك بدون تبييت النية صائم .
ومثال الثاني : أن يقول في مسألة السلم : لا نسلم صحة الترخيص في السلم ، وإن سلمنا ، فلا نسلم أن اللام فيه للاستغراق ، فلا يتناول الحيوان ، وإن صح السلم في غيره .
وأما مسألة غسل الزوجة ، فبأن نمنع صحة ذلك عن علي ، وإن سلم ، فلا نسلم أن ذلك اشتهر ، وإن سلم ، فلا نسلم أن الإجماع السكوتي حجة ، [ ص: 470 ] وإن سلم ، فالفرق بين علي وغيره; أن فاطمة كانت زوجته في الدنيا والآخرة ، فالموت لم يقطع النكاح بينهما ، بإخبار الصادق - صلى الله عليه وسلم - ، بخلاف غيرهما ، فإن الموت يقطع نكاحهما .
الوجه الثاني في جواب فساد الاعتبار : أن يبين المستدل أن ما ذكره من القياس يستحق التقديم على النص الذي أبداه المعترض ، إما " لضعفه " أي : لكون النص ضعيفا ، فيكون القياس أولى منه ، أو لكون النص عاما ، فيكون القياس مخصصا له ، جمعا بين الدليلين كما سبق في موضعه ، أو لكون مذهب المستدل يقتضي تقديم القياس على ذلك النص ، ككونه حنفيا يرى تقديم القياس على الخبر إذا خالف الأصول ، أو فيما تعم به البلوى ، أو مالكيا يرى تقديم القياس على الخبر إذا خالفه خبر الواحد كما سبق في موضعه .
وبالجملة : للمستدل الاعتراض على النص الذي يبديه المعترض بجميع ما يعترض به على النصوص ، سندا ومتنا .
تنبيه : فساد الاعتبار إنما يرد على القياس ، وكذلك فساد الوضع المذكور بعد ، بخلاف سؤال الاستفسار; فإنه لا يختص بالقياس ، بل يرد على النصوص بطريق الأولى ، لأن الإجمال والغرابة تقع فيها ، كما تقع في ألفاظ القياس .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : فساد الاعتبار يشبه أن يكون حاصله راجعا إلى النزاع في الاحتجاج بجنس الدليل المذكور ، كما لو استدل الشافعي بالقياس على [ ص: 471 ] الظاهري ، فيقول الخصم : ما ذكرته فاسد الاعتبار ، أي : إنك اعتبرت ما لا يصلح أن يكون دليلا .
قلت : هذا ليس على إطلاقه ، بل إنما يصح في الصورة التي ذكرناها ، لأن الظاهري هو الذي ينكر أن جنس القياس دليل ، أما الحنفي إذا استدل عليه بالقياس في الحدود ونحوها ، مما لا يثبت عنده بالقياس ، فأورد فساد الاعتبار ، فإنه لا ينازع في كون جنس القياس دليلا ، إنما ينازع في كونه دليلا في هذا الحكم الخاص ، وقد ظهر بهذا أن سؤال فساد الاعتبار ، إما أن يكون كليا ، كإنكار الظاهري ونحوه الاستدلال بالقياس ، أو جزئيا . ثم هو إما عام ، أي : يرد في عموم الأحكام ، كما إذا استدل بالقياس في مقابلة نص الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ، كما سبقت أمثلته ، أو خاصا ، أي : لا يرد إلا في أحكام خاصة ، كما إذا استدل على الحنفي بالقياس في الحدود والكفارات والأسباب والمقدرات ونحو ذلك ، فهذا أضبط أقسام فساد الاعتبار .
وإذا توجه سؤال فساد الاعتبار على المستدل; انقطع مطلقا ، لتجرد دعواه عن دليل ، بخلاف سؤال الاستفسار ، فإنه لا ينقطع مطلقا ، بل بالنسبة إلى مقامه الخاص .
والفرق : أن النزاع هنا لفظي لا يقدح في الحكم ، بخلاف فساد الاعتبار ، فإنه قادح في عمدة الحكم ، وهو الدليل .