[ ص: 481 ] الرابع : المنع ، وهو منع حكم الأصل ، ولا ينقطع به المستدل على الأصح ، وله إثباته بطرقه ؛ ومنع وجود المدعى علة في الأصل فيثبته حسا أو عقلا أو شرعا بدليله ، أو وجود أثر ، أو لازم له ، ومنع عليته ، ومنع وجودها في الفرع ، فيثبتهما بطرقهما كما سبق .
السؤال " الرابع : المنع " .
قوله : " وهو منع حكم الأصل " ليس المراد حصر جنس المنع في منع حكم الأصل ، بل هو على أربعة أضرب . وشرع في ذكرها واحدا بعد واحد :
الرابع : منع وجوده في الفرع ، فكأنه قال : المنع ، وهو ينقسم إلى منع حكم الأصل ، ومنع وجود العلة فيه ، ومنع علية الوصف ، ومنع وجوده في الفرع .
ومثال ذلك فيما إذا قلنا : النبيذ مسكر ، فكان حراما قياسا على الخمر ، فقال المعترض : لا نسلم تحريم الخمر ، إما جهلا بالحكم ، أو عنادا ، فهذا منع حكم الأصل . ولو قال : لا أسلم وجود الإسكار في الخمر ؛ لكان هذا منع [ ص: 482 ] وجود المدعى علة في الأصل . ولو قال : لا أسلم أن الإسكار علة التحريم ، لكان هذا منع علية الوصف في الأصل ، ولو قال : لا أسلم وجود الإسكار في النبيذ ؛ لكان هذا منع وجود العلة في الفرع ، ففي الأصل ثلاثة منوع ، وفي الفرع منع واحد .
قوله : " ولا ينقطع به المستدل على الأصح " أي : لا ينقطع المستدل بمنع حكم الأصل على أصح الأقوال فيه ، وهي أربعة :
أحدها : ينقطع ، لأنا لو مكناه من الكلام على الأصل وإثباته بالدليل ، لانتشر الكلام ، وانتقل إلى مسألة أخرى .
مثاله : لو قال حنبلي في جلد الميتة : إنه نجس ، فلا يطهر بالدباغ ، كجلد الكلب ، فقال الحنفي : لا أسلم حكم الأصل ؛ وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ بل يطهر عندي ، فشرع المستدل يقول : الدليل على أن جلد الكلب لا يطهر : أنه حيوان نجس العين ، فلا يطهر جلده بالدباغ ، كجلد الخنزير ، فقد خرج عن محل النزاع ، وهو جلد الميتة إلى غيره ، وقد يتسلسل المنع ، مثل أن يمنع المعترض الحكم في جلد الخنزير ، أو الوصف في جلد الكلب ، فيخرج قانون النظر عن وضعه .
القول الثاني : لا ينقطع المستدل بذلك .
القول الثالث : إن كان المنع جليا في مذهب المعترض ، مشهورا ، يعلمه غالب الفقهاء ، انقطع المستدل ، وإن كان خفيا لا يعلمه إلا الآحاد والخواص ، [ ص: 483 ] لم ينقطع .
والفرق : أن خفاء المنع يكون عذرا له ، فيمكن من الاستدلال عليه ، ولا يحكم بانقطاعه ، بخلاف المنع الجلي ، فإنه يعد كالمفرط إذا قاس على أصل ممنوع ، حيث عرض الكلام للتسلسل والانتشار .
وقد مثل المنع الجلي بقوله : لا يقتل الحر بالعبد للتفاوت بينهما ، قياسا على المسلم بالذمي ، فإن ذلك ممنوع عند الخصم ، وهو جلي من مذهبهم أنهم يقتلون المسلم بالذمي .
وكقولنا : يقضى على الغائب ، وإن كان في ذلك نوع نقص بالنسبة إلى القضاء على الحاضر ، كما يقضى بالشاهد واليمين ، وإن كان فيه نوع نقص بالنسبة إلى القضاء بشاهدين ، فإن القضاء بشاهد ويمين ممنوع عندهم منعا جليا مشهورا .
ومثل المنع الخفي بقولنا في تعيين النية لرمضان : صوم واجب ، فيجب تعيين النية له كالقضاء ، وقولنا في الوضوء : عبادة ، فيفتقر إلى النية ، كالتيمم ، فإن المنع في ذلك خفي ، إذ منع احتياج القضاء إلى النية إنما هو على مذهب زفر ، وأما افتقار التيمم إلى النية ، فلا أعلم عندهم فيه خلافا .
والتحقيق : أن خفاء المنع وظهوره يختلف باختلاف المستدل في علمه ، واطلاعه على أقوال الناس ، وظهور ذلك عليه بأماراته ، فيقال له : هذا لا يخفى على مثلك ، فهو جلي في حقك ، لكن على هذا إشكال ، وهو أن المستدل إذا ادعى خفاء ذلك عنه ، فقد ادعى ممكنا ، والأصل على وفقه ، وهو عدم علمه ، فلو حكم بانقطاعه بذلك لأفضى إلى تكذيبه ، فالأشبه على هذا أن يرجع إلى قوله في ذلك . إن قال : علمت المنع ، انقطع ، وإلا فلا . ويلزمه [ ص: 484 ] الصدق في ذلك على هذا القول .
أما ضبط خفاء المنع وظهوره بما يعلمه غالب الفقهاء فهو وإن كان قريبا لكنه متفاوت جدا ، إذ غالب الفقهاء يتفاوتون في معرفة مذهب خصمهم ، كما يتفاوتون في معرفة مذاهبهم ، وقد يبلغ الفقيه رتبة الاجتهاد ، ويخفى عنه غالب مذهب غيره .
وبالجملة : في هذا القول التفصيلي نظر .
القول الرابع : الرجوع في ذلك إلى عرف أهل بلد المناظرة ، إن كانوا يعدون منع حكم الأصل انقطاعا ، انقطع ؛ وإلا فلا ، إذ للجدل مراسم وحدود مصطلح عليها ، فينبغي الوقوف معها .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي إن لم يكن للمستدل مدرك ، يعني طريقا إلى إثبات الحكم غير القياس على الأصل الممنوع جاز ، ولا يكون منقطعا بالمنع ، وإن كان له مدرك غيره ، فإن كان المنع خفيا لم ينقطع ، وإلا انقطع . وهذا تفصيل جيد ذكره في " الجدل " .
واختار في " المنتهى " : أنه لا يكون منقطعا على الإطلاق ، وهو مذهب الأكثر ، والذي صحح في " المختصر " .
ووجهه : أن حكم الأصل أحد أركان القياس ، فإذا امتنع كان له إثباته بالدليل ، كغيره من أركانه ، مثل أن يقول الحنبلي في ضمان العارية : أثبت يده على مال الغير لغرض نفسه ، من غير سابقة استحقاق ، فضمن ، قياسا على الغاصب ، فيقول الحنفي : لا أسلم أن الغاصب يجب عليه الضمان عند فوات المغصوب ، بل يخير المالك ، إن شاء صبر حتى يعود العبد ، أو توجد الضالة ، [ ص: 485 ] وإن شاء أخذ القيمة ، ويملك الغاصب العين ، بحيث إذا عادت كانت له ، فيقول المستدل : الدليل على أن الغاصب يجب عليه الضمان : أن الغصب أكل مال بالباطل ، وهو منهي عنه ، فيكون حراما ، فيجب تركه برد المغصوب على مالكه ، وما وجب رده مع بقائه ، وجب رد قيمته عند فواته ، لأنها بدله . وأيضا قوله - عليه السلام - : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022210وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي لكن هذا يتناول الفرع المتنازع فيه ، فلا يصح القياس معه ، وإن شاء أجاب عن تملك الغاصب العين بالقيمة ، بقوله - عليه السلام - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه وهو نص ، فلا يسمع الاجتهاد معه .
وكذا لو قال المستدل : يجب غسل ولوغ الخنزير سبعا ، قياسا على نجاسة الكلب ، فقال الحنفي : لا أسلم الحكم في الكلب ، وإنما يغسل عندي ثلاثا ، أو يكاثر ، فيقول المستدل : الدليل على غسل نجاسة الكلب سبعا : قوله - عليه السلام - : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022443إذا ولغ الكلب . . . الحديث .
[ ص: 486 ] قوله : " وله إثباته بطرقه " ، أي : إذا منع المعترض حكم الأصل لا ينقطع المستدل ، وله إثباته بطرقه من نص كتاب ، أو سنة ، أو إجماع ، أو قياس على أصل آخر نحو ما تقدم .
قوله : " ومنع وجود المدعى علة في الأصل " . هذا هو المنع الثاني ، وقد سبق مثاله .
قوله : " فيثبته " أي : إذا منع المعترض وجود الوصف في الأصل ، فيثبته المستدل " حسا ، أو عقلا ، أو شرعا " أي : يثبته بالحس ، كالقتل والغصب والسرقة ، فإنها أمور محسوسة ، أو بالعقل ؛ كالعدوانية ، أي : كون القتل عدوانا . والشدة مطربة ، فيقول المعترض : لا أسلم أن هذا القتل عدوان ، وأن هذا الشراب مسكر ، فإن كون القتل عدوانا والشراب مسكرا يعرف بالعقل بدوران زوال العقل مع شربه وجودا وعدما ، أو بالشرع ، كالطهارة والنجاسة ، والحل والحرمة ، في قولنا : طاهر ، فجاز بيعه ، أو نجس ، فلا يجوز بيعه ، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية .
وقوله : " بدليله ، أو وجود أثر ، أو لازم له " ، أي : يثبت الوصف إذا منعه بدليله من حس ، أو عقل ، أو شرع ، كما ذكرنا ، أو بالاستدلال على وجوده بوجود لازم له ، أو أثر من آثاره .
والصواب أن يقال : بوجود أثر أو أمر ملازم له ، أو بوجود ملزومه ، لأن [ ص: 487 ] وجود اللازم لا يدل على وجود الملزوم ، بخلاف الأثر ، فإنه ملزوم للمؤثر ، فيدل عليه دلالة الملزوم على لازمه ، والأمر الملازم للشيء لا ينفك عنه ، يدل عليه كملازمة وجود النهار لطلوع الشمس ، وطلوع الشمس لوجود النهار .
وهكذا عبارة الشيخ أبي محمد : وقد يقدر على ذلك بإثبات أثر ، أو أمر يلازمه ، وهو أجود من عبارة " المختصر " لما ذكرناه ، وذلك كدلالة تحريم القتل على كونه عمدا ، لأن العمد من لوازم التحريم ، ودلالة الدية على القتل ، لأنها من آثاره ، ودلالة وجوب الحد على انتفاء الشبهة ، لأن انتفاء الشبهة لازم لوجوب الحد ، وكلحوق النسب على عدم وجوب الحد ، لأن لحوق النسب من آثار الوطء الذي ليس بحرام ، وكدلالة فساد العقل على إسكار الشراب ، وجواز البيع على الطهارة ، وعدم جواز الاستصحاب في الصلاة على النجاسة ، وأشباه ذلك .
قوله : " ومنع عليته ، ومنع وجودها في الفرع " . هذان المنعان الآخران ، أي : ومن المنوع منع علة الوصف ، أي : منع كونه علة في الأصل ، ومنع وجوده في الفرع كما سبق مثاله ، فيثبتهما المستدل بطريقهما " كما سبق " إشارة إلى ما تقدم من أدلة إثبات كون الوصف علة ، وهي النص ، والإجماع ، والاستنباط بالمناسبة ، والسبر ، والدوران ، ونحو ذلك وإلى ما تقدم أيضا من دليل وجود العلة في الفرع من إلغاء الفارق ، وهو تنقيح المناط ونحوه .
[ ص: 488 ] فلو قال المستدل : النبيذ مسكر ، فحرم كالخمر ، فقال المعترض : لا نسلم أن الإسكار علة ، ولا أنه موجود في النبيذ . لكان للمستدل أن يقول : الدليل على أن الإسكار علة التحريم أنه مناسب له ، لإفضائه إلى مصلحة صيانة العقول عن الفساد ، ولأن تحريم الخمر إما للونه ، أو ميعانه ، أو إزباده ، أو كونه من العنب ، أو لإسكاره ، والأوصاف كلها طردية إلا الإسكار ، فكان هو العلة ، وهو موجود في النبيذ ، بدليل الوجدان والعقل ، فإن الشارب له يجد النشاط ، وغروب العقل ، ودبيب الأعضاء ، وكذلك يرى زوال العقل يدور معه وجودا وعدما ، وذلك دليل كونه مسكرا ، والله تعالى أعلم بالصواب .