[ ص: 510 ] والكسر : وهو إبداء الحكمة بدون الحكم ، غير لازم ، إذ الحكم لا تنضبط بالرأي ، فرد ضبطها إلى تقدير الشارع ، وفي اندفاع النقض بالاحتراز عنه بذكر وصف في العلة لا يؤثر في الحكم ، ولا يعدم في الأصل لعدمه ، نحو قولهم في الاستجمار : حكم يتعلق بالأحجار ، يستوي فيه الثيب والأبكار ، فاشترط فيه العدد كرمي الجمار ، خلاف ، الظاهر ، لا لأن الطردي لا يؤثر مفردا ، فكذا مع غيره ، كالفاسق في الشهادة ، ويندفع بالاحتراز عنه بذكر شرط في الحكم عند أبي الخطاب ، نحو : حران مكلفان محقونا الدم ، فجرى بينهما القصاص في العمد كالمسلمين ، إذ العمد أحد أوصاف العلة حكما ؛ وإن تأخر لفظا ، والعبرة بالأحكام لا الألفاظ ، وقيل : لا ، إذ قوله في العمد ، اعتراف بتخلف حكم علته عنها في الخطأ ، وهو نقض ، والأول أصح .
قوله : " والكسر : وهو إبداء الحكمة بدون الحكم غير لازم " .
أما تعريفه ، فهو إبداء الحكمة بدون الحكم ، والحكمة قد سبق أنها : ما اشتمل عليه الضابط الوصفي كالمشقة التي اشتمل عليها السفر المباح ، والعقوبة الرادعة التي اشتمل عليها القصاص ، ونحو ذلك .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : وهو - يعني الكسر - نقض على العلة دون ضابطها .
[ ص: 511 ] قلت : الضابط : هو ما رتب الشرع عليه الحكم ، لكونه مظنة حصول الحكمة ، كالقتل العمد العدوان الذي رتب عليه القصاص لكونه مظنة حفظ النفوس ، وكإيلاج الفرج في فرج محرم رتب عليه الحد ، لكونه مظنة حفظ الأنساب وأشباه هذا .
مثال ذلك قول الحنفي في العاصي بسفره : يترخص ، لأنه مسافر ، فيترخص كالمسافر سفرا مباحا ، فإذا قيل له : لم قلت : إنه يترخص ؟ قال : لأنه يجد مشقة في سفره ، فناسب الترخص ، وقد شهد له الأصل المذكور بالاعتبار ، فيقول الحنبلي : هذا ينكسر بالمكاري والفيج ونحوهما ممن دأبه السفر ؛ يجد المشقة ولا يترخص ، وكذلك المريض الحاضر ؛ يجد المشقة ، ولا يجوز له قصر الصلاة ، وكذلك لو قلنا في قطع اليد باليد : إن القطع العمد العدوان سبب لوجوب القطع ، لأنه مناسب من حيث إنه جناية ، والجناية تناسب العقوبة ، فيقال : هذا ينكسر بالضرب والشتم ، وسائر الجنايات هي جنايات ، ولا توجب القصاص . هذا ما يتعلق بتعريف الكسر وتمثيله .
وأما حكمه ، فهو أنه " غير لازم " ، أي : غير وارد نقضا على العلة على الصحيح عند الأصوليين .
قوله : " إذ الحكم لا تنضبط بالرأي ، فرد ضبطها إلى تقدير الشارع " .
هذا دليل على أن الكسر لا يرد نقضا . وتقريره : أن الحكم ليست مضبوطة في نفسها ، وما ليس مضبوطا في نفسه ، وجب رده إلى تقدير الشارع وضبطه ، وإنما قلنا : إن الحكم ليست مضبوطة في أنفسها ، لأنها عبارة عن [ ص: 512 ] جلب مصالح ، ودرء مفاسد ، والمصالح والمفاسد تختلف وتتفاوت كثيرا باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص وغير ذلك من الأمور المتعلقة بها .
وأيضا فإنها لا تتميز بأنفسها ، وما لا يتميز لا ينضبط ، لأن التمييز من لوازم الانضباط ، وهو منتف ، وإنما تتميز وتتنوع بالإضافة إلى الأوصاف الضابطة لها من الأفعال الظاهرة .
مثال ذلك قولنا : مشقة السفر ، ومشقة المرض ، ومشقة الحمل ، وجناية السرقة ، وجناية الغصب ، وجناية القتل . والقطع ، فأنواع المشقة والجناية إنما تميزت بتميز الأفعال التي صدرت عنها ، أما هي لذاتها ؛ فلا تميز فيها لنوع من نوع .
إذا ثبت أنها غير منضبطة في نفسها ، لم يجز ربط الأحكام بها لوجهين :
أحدهما : لحوق المشقة للمكلفين بربط مصالحهم بأمور خفية غير مضبوطة ، فتختلف عليهم الأحكام ، وتضطرب الأحوال .
الثاني : أن الشرع وضع قانونا كليا مؤبدا ، فلو علق بالحكم ، لكثر اختلافه واضطرابه ، وليس ذلك شأن القوانين ، وإنما قلنا : إن ما لا ينضبط بنفسه يجب رده إلى تقدير الشارع وضبطه ، فلأن ما لا ينضبط بنفسه يقع فيه النزاع ، وما وقع فيه النزاع ، وجب رده إلى الشرع لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] .
قال بعضهم : ولأن التعليل لم يقع بالحكمة لخفائها واضطرابها ، بل [ ص: 513 ] بالضابط المشتمل عليها ، ولا معنى لإبطال ما لم يعلل به . قال : فيحتاج المعترض إلى بيان استواء الحكمة في القياس . وصورة النقض كاستواء الجناية الحاصلة بالضرب والشتم ، والجناية الحاصلة بالقطع ، وكذلك استواء مشقة المسافر ، ومشقة المكاري ، والفيج والمريض ، ولا سبيل إلى ذلك لعدم انضباط المشقة والجناية في نفسها .
وتلخيص هذا الكلام أن يقال : لا نسلم صحة سؤال الكسر ، لأن شرط صحته أن تكون الحكمة المعلل بها موجودة بكمالها في صورة الكسر ، ولا أسلم ذلك ، لأن طريق معرفته وجود المظنة ، ولم توجد .
وذهب قوم من الأصوليين إلى أن سؤال الكسر لازم مفسد للعلة ، احتجاجا منهم بأن المقصود من شرع الحكم إنما هو الحكمة دون ضابطها ، فإذا تخلف الحكم عنها ، ظهر إلغاء ما ثبت لأجله الحكم ، فبطلت كضابط الحكم إذا بطل .
والجواب : أن المقصود من شرع الحكم الحكمة المطلقة أو المنضبطة بنفسها أو بضابطها ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، لكن قد بينا أن انضباط الحكمة بنفسها متعذر ، فتعين المصير إلى ضبطها بضابطها ، فيجب أن يكون المعتبر في السلامة والنقض ذلك الضابط الذي تحقق به اعتبار الحكمة .
قلت : قد سبق ذكر الخلاف في جواز التعليل بالحكمة دون الضابط ، [ ص: 514 ] فالخلاف هنا يقرب تخريجه على ذلك .
ومن أمثلة اعتبار الحكمة بضابطها : أن المشقة المبيحة للترخص لما كانت تختلف باختلاف الأشخاص في الضعف والقوة ، واختلاف الأحوال في الفقر والجدة ، ضبطت بالسفر الشرعي ، لأنه وصف حقيقي لا يختلف ، فاستوى في مناط الترخص الملك والمملوك ، والغني والصعلوك .
ومنها : أن زوال العقل بشرب المسكر لما كان يختلف باختلاف الأمزجة والطباع ، فبعض الناس يزول عقله بتناول الجرعة والجرعتين ، وبعضهم لا يزول بالزق والزقين ؛ جعل ضابط التحريم مطلق الخمر قل أو كثر ، فاستوى في وجوب الحد به شارب القليل والكثير .
ومنها : أن الإنزال في الوطء لما كان يختلف باختلاف حال الواطئ والموطوء سرعة وبطأ ؛ حتى إن من اشتدت غلمته ربما أنزل قبل أن يولج ، ومن ضعفت همته لمرض ، أو تقدم وطء ، أو ضعف جبلة ، ربما أولج ولم ينزل ؛ جعل الشرع التقاء الختانين ضابطا لأحكام الإنزال من وجوب الغسل ، وحد ، وبطلان عبادة ، وتحليل زوجة ، وخروج من فئة ، وغير ذلك ، كل هذا لأن هذه الأوصاف مظان هذه الحكم ، فترتب عليها الأحكام ، والله تعالى أعلم .
قوله : " وفي اندفاع النقض بالاحتراز عنه بذكر وصف في العلة لا يؤثر في الحكم ، ولا يعدم في الأصل لعدمه - نحو قولهم في الاستجمار : حكم يتعلق بالأحجار ، يستوي فيه الثيب والأبكار ، فاشترط فيه العدد كرمي الجمار ، خلاف الظاهر : لا ، لأن الطردي لا يؤثر مفردا ، فكذا مع غيره ، كالفاسق في [ ص: 515 ] الشهادة " .
هذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر ، فالمبتدأ قوله : " خلاف " ، والخبر قوله : " وفي اندفاع النقض " ، إلى آخره ، وهو مقدم كقولهم : في المسألة خلاف ، وفي الدار رجل ، ومن المؤمنين رجال .
ومعنى هذه الجملة ؛ أن المعلل إذا احترز عن النقض بذكر وصف في العلة غير مؤثر في الحكم وجودا وعدما ، بحيث لا يتوقف وجوده على وجوده ، ولا يعدم بعدمه ، فهل يندفع النقض عن علته بذلك ؟ فيه خلاف .
ومثاله ما ذكرناه ، فإن قولنا : " الاستجمار حكم يتعلق بالأحجار " وصف شبهي صحيح . وقولهم : " يستوي فيه الثيب والأبكار " ؛ لا تأثير له في اشتراط العدد ولا عدمه ، وإنما أتي به دفعا لنقض القياس المذكور بحد الرجم ، فإنه حكم يتعلق بالأحجار ، فلو اقتصر على هذا الوصف في الاستجمار ، لورد عليه حد الرجم ، لأنه حكم تعلق بالأحجار ، ولم يشترط فيه العدد ، فلما قيل : يستوي فيه الثيب والأبكار ، خرج حد الرجم ، وزال النقض به ، لأنه وإن كان حكما يتعلق بالأحجار ، لكنه فارق الاستجمار بأنه يختلف فيه الثيب والأبكار ، فالثيب إذا زنى يرجم ، والبكر لا يرجم ، بل يجلد ويغرب ، بخلاف الاستجمار ؛ فإنه يستوي فيه الثيب والبكر ، لأنه إزالة نجاسة ، وهما مخاطبان بها .
فمن قال : يندفع النقض عن العلة بذلك ، قال : لأن العلة يشترط اطرادها ، فإذا لم يكن الوصف المؤثر في الحكم مطردا ، ضممنا إليه وصفا غير مؤثر ليتحقق اطرادها ، وتكون فائدة المؤثر العلية ، وفائدة غير المؤثر دفع النقض .
[ ص: 516 ] ومن قال : لا يندفع النقض بذلك - وهو الصحيح - قال : إن الوصف الطردي غير المؤثر ولا المناسب لا يعتبر إذا كان مفردا ، فكذلك لا يعتبر مع غيره من الأوصاف المعتبرة ، " كالفاسق في الشهادة " لا تقبل شهادته وحده فيما تقبل فيه شهادة الواحد ؛ كذلك لا تقبل شهادته مع غيره فيما يعتبر فيه شهادة أكثر من واحد .
وبالجملة ؛ فكل ما لا يعتبر مفردا ، لا يعتبر مع غيره إلا لدليل يدل على أن تركيبه مع غيره أوجب له حكم الاعتبار ، كالماء النجس إذا أضيف إلى ماء طهور كثير ، أزال حكم نجاسته ونحو ذلك .
وحاصل الجملة المذكورة أن النقض هل يندفع بذكر وصف طردي في العلة ؟ فيه خلاف ، الأصح لا ، لأن الطردي لا يصلح للاستقلال في العلة المفردة ، فلا يصلح للإعانة في العلة المركبة .
قوله : " ويندفع بالاحتراز عنه بذكر شرط في الحكم عند أبي الخطاب " ، إلى آخره . أي : إذا احترز عن نقض العلة بذكر شرط في الحكم بأن قيده بشرط أو وصف ؛ هل يندفع النقض بذلك أم لا ؟ فيه خلاف بين أبي الخطاب وغيره .
مثاله : أن يقول المعلل : " حران مكلفان محقونا الدم ، فجرى بينهما القصاص في العمد كالمسلمين " ، فمن زعم أن النقض لا يندفع بذلك ، قال : لأن العلة هي الأوصاف المذكورة قبل الحكم ، فيجب ثبوت الحكم حيث [ ص: 517 ] ثبتت ، فتقييد الحكم بعد ذلك بشرط أو وصف يدل على فسادها ، إذ لو صحت ، لما احتاج إلى الاحتراز بتقييد الحكم .
مثاله ههنا : أن العلة تقتضي أنه حيث وجد حران مكلفان محقونا الدم أن يجري بينهما القصاص حتى في قتل الخطأ وشبه العمد ، لكن ذلك باطل بإجماع ، فلما انتقضت العلة بذلك ، كان احترازه في الحكم بذكر العمد لاحقا لها بعد فسادها ، فلم يؤثر في تصحيحها ، كما إذا ولغ كلب في قلتي ماء إلا رطلين ، ثم وضع فيه رطل ماء لم يكن مؤثرا في زوال نجاسته بالولوغ السابق .
ومن زعم اندفاع النقض بذلك قال : الشرط الذي قيد به الحكم هو " أحد أوصاف العلة حكما ، وإن تأخر " في اللفظ حتى كأنه قال في هذا المثال : حران مكلفان محقونا الدم قتل أحدهما الآخر عمدا ، فجرى بينهما القصاص كالمسلمين ، وإذا كان التقدير في المعنى هذا المثال وجب اعتباره ، لأن العبرة بحق الأصل إنما هي بالأحكام لا بالألفاظ . وهذا أصح ، وهو قول أبي الخطاب .
وقد حصل الجواب بما ذكرناه عما احتج به الخصم إلا عن مسألة القلتين التي استشهدوا بها ، فالجواب عنها بالفرق بينها وبين مسألة النزاع .
وتقريره : أن الماء لا ارتباط بين أجزائه المنفصل بعضها عن بعض ، فإذا حصل فيما دون القلتين منه نجاسة ، استقر له حكم التنجيس ، فلحوق تكملة [ ص: 518 ] القلتين له لا يرفع عنه التنجيس المستقر بخلاف مسألتنا ، فإن أجزاء الجملة الواحدة يرتبط بعضها ببعض ، فلا يستقر لبعضها حكم حتى تكمل ، فلهذا قلنا : إن النقض لم يستقر لأوصاف العلة المذكورة بل لا يلحقها أصلا قبل ورود الوصف الذي قيد به الحكم ، فكان وروده مانعا لورود النقض ، لا رافعا له بعد استقراره بخلاف الماء ، فظهر الفرق ، وصار ذلك كسائر التوابع اللفظية ، كخبر المبتدأ ونحوه ، والحال والتمييز ، والاستثناء ، لا يستقر حكم الجملة بدونها ، حتى لو قال : له علي عشرة دراهم ، وعشرون دينارا ، وثلاثون قنطارا دينا إلا واحدا من كل عدد من ذلك ؛ لصح هذا الاستثناء ، ولم يستقر حكم المستثنى منه حتى يتم الاستثناء ، وكذلك في كل صورة من ذلك وغيره مما أشبهه ، والله تعالى أعلم .