[ ص: 535 ] فإن بين المعترض في أصل ذلك الحكم المدعى ثبوته بدون ما ذكره مناسبا آخر ، لزم المستدل حذفه ، ولا يكفيه إلغاء كل من المناسبين بالأصل الآخر ، لجواز ثبوت حكم كل أصل بعلة تخصه ، إذ العكس غير لازم في الشرعيات . وإن ادعى المعترض استقلال ما ذكره مناسبا ، كفى المستدل في جوابه بيان رجحان ما ذكره هو بدليل ، أو تسليم ، وأما في الفرع بذكر ما يمتنع معه ثبوت الحكم فيه ، إما بالمعارضة بدليل آكد من نص أو إجماع ، فيكون ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار كما سبق ، وإما بإبداء وصف في الفرع مانع للحكم فيه ، أو للسببية ، فإن منع الحكم ، احتاج في إثبات كونه مانعا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه من العلة والأصل ؛ وإلى مثل علته في القوة ، وإن منع السببية ، فإن بقي احتمال الحكمة معه ولو على بعد لم يضر المستدل ، لإلفنا من الشرع اكتفاءه بالمظنة ومجرد احتمال الحكمة ، فيحتاج المعترض إلى أصل يشهد لما ذكره بالاعتبار ، وإن لم يبق ، لم يحتج إلى أصل ؛ إذ ثبوت الحكم تابع للحكمة ، وقد علم انتفاؤها ، وفي المعارضة في الفرع ينقلب المعترض مستدلا على إثبات المعارضة والمستدل معترضا عليها بما أمكن من الأسئلة .
قوله : " فإن بين المعترض في أصل ذلك الحكم المدعى ثبوته بدون ما ذكره مناسبا آخر لزم المستدل حذفه " .
قلت : هذا من توابع هذا الجواب الأخير ، ومعناه أن المعترض إذا بين في أصل قياس المستدل وصفا زائدا على الفرع يصح تعليق الحكم عليه ، فألغاه [ ص: 536 ] المستدل ببيان ثبوت الحكم في أصل آخر بدون ذلك الوصف الذي أبداه المعترض ، فبين المعترض أن في هذا الوصف الثاني وصفا آخر مناسبا يصح تعليق الحكم به ، لزم المستدل إبطال هذا الوصف بحذفه ، أو منعه ، أو غير ذلك من وجوه الإبطال ، لأنه إن لم يبطله كان الكلام فيه كالكلام في الأصل الأول من حيث إنه ما ذكره المستدل للتعليل ، وتمثيله بمسألة الأمان أيضا إذا قال المستدل : مسلم مكلف ، فصح أمانه كالحر ، فعارضه الخصم بوصف الحرية ، فألغاه المستدل بالمأذون له في القتال حيث صح أمانه بدون الحرية ، فقد صار المأذون له كأصل بأن قاس عليه المستدل ، فإذا بين المعترض أن في المأذون له في القتال وصفا آخر مناسبا لصحة الأمان ، مفقودا في غير المأذون له ، وذلك المناسب هو الإذن .
ووجه مناسبته أن السيد أقامه مقامه في القتال والنظر في مصالح الحرب ، وذلك يدل على أنه علم منه الكفاية في ذلك ورصانة الرأي ، وإلا كان السيد فاسقا بتفويض مصلحة المسلمين العامة إلى من ليس أهلا لها ، والفسق خلاف ظاهر حال المسلم .
وحينئذ يكون الإذن دليلا على صلاحية هذا المأذون له لإعطاء الأمان ، فالحرية وإن انتفت حقيقتها ، فقد خلفها صفة تحصل مقصودها ، وتدل عليها ، فحينئذ يلزم المستدل إبطال هذا المناسب ، وإلا كان معارضا بوصف الإذن كما عورض بوصف الحرية . وسبيله في إلغائه أن يبين مثلا صحة الأمان من العبد في صورة بدون الإذن ، وللمعترض إبداء وصف مناسب في تلك [ ص: 537 ] الصورة ، وعلى المستدل إلغاؤه ، وهلم جرا في إبداء المناسب من المعترض وإلغائه من المستدل حتى ينقطع الإلغاء من المستدل ، أو إبداء الوصف من المعترض .
قلت : حاصل ما ذكر من إلغاء المستدل : وصف المعترض في الأصل يرجع إلى أن المستدل قاس محل النزاع على أصل ، كقياس أمان العبد على أمان الحر ، ثم على أمان المأذون له ، وذلك انتقال في الحقيقة إلا أنه لما لم يكن بطريق الإعراض عن الأصل الأول بطريق التصحيح له بدفع ما يبطل تعلقه به لم يضره ولم يكن منتقلا .
أما المعترض ، فإنه لما ادعى أن وصف الحرية في أمان الحر مؤثر ، ووصف الإذن في أمان المأذون له أيضا مؤثر ، فقد اعترف بأن ما أبداه أولا من وصف الحرية مع الإسلام والتكليف ليس متعينا للعلية ، بل هو وصف الإذن . وغيره من الأوصاف التي يعارض بها المستدل في صورة الإلغاء على طريق البدل . أعني أن الوصف المضموم إلى الإسلام والتكليف ليس هو الحرية عينا ، بل هو الحرية أو الإذن في القتال أو غيرهما كالتدبير والاستيلاد والكتابة إن قال بصحة الأمان معها فينبغي أن يكون منقطعا بإبداء المناسب في محل الإلغاء .
فلو قال المستدل للمعترض : أنت عللت صحة أمان الحر بوصف الحرية لكمال نظر الحر بتفرغه ، فتكمل مصلحة أمانه ، ثم جعلت الإذن في صورة المأذون له خلفا عن الحرية وهو لا يساويها في المصلحة لتحقق الرق في المأذون على كل حال ، فيتحقق شغل الخاطر ، وعدم فراغ البال ، فليس لك أن تعارضني به في صورة المأذون له عن الحرية - لكان هذا كلاما [ ص: 538 ] صحيحا ، لأنه علل بوصف ولم يظهره بكماله .
قوله : " ولا يكفيه إلغاء كل من المناسبين بالأصل الآخر لجواز ثبوت حكم كل أصل بعلة تخصه ، إذ العكس غير لازم في الشرعيات " .
اعلم أن بعض الجدليين زعم أن المعترض إذا أبدى في صورة الإلغاء مناسبا آخر غير ما عرض به في أصل القياس ، كفى في جوابه " إلغاء كل من المناسبين " اللذين أبداهما المعترض " بالأصل الآخر " . مثل أن يلغي الحرية في مسألة الأمان بمسألة المأذون ، حيث اكتفى المعترض فيه بالإذن ، ولم يعتبر حقيقة الحرية . ويلغي الإذن بأمان الحر حيث صح ولم يتصور فيه وجود الإذن ، وإذا ألغى كل واحد من المناسبين ، سقطت المعارضة من الأصلين وبقي قياس المستدل سالما عن معارض ، فتبين ههنا أن هذا الجواب لا يصح بناء على جواز تعدد العلل في الأصول ، فيثبت حكم كل أصل بعلة غير علة الأصل الآخر ، كأمان الحر بعلة الحرية ، وأمان المأذون بعلة الإذن ، لأن " العكس " - يعني عكس العلة الشرعية - " غير لازم " كما سبق ، فلا يجب انتفاء الحكم في أحد الأصلين ، لانتفاء علته في الأصل الآخر . مثلا لا يلزم انتفاء صحة الأمان من المأذون لانتفاء الحرية ، ولا انتفاء صحة أمان الحر لعدم تصور الإذن ، بل جاز أن تثبت الصحة في كل منهما بالمعنى المناسب فيه . وإذا جاز ذلك لم يكن لإلغاء كل من المناسبين بالآخر وجه .
قوله : " وإن ادعى المعترض استقلال ما ذكره مناسبا كفى المستدل في جوابه بيان رجحان ما ذكره هو بدليل أو تسليم " .
[ ص: 539 ] يعني : أن المعترض إذا عارض المستدل بوصف في الأصل ، فإن لم يدع استقلاله بالحكم ، بل بانضمامه إلى ما ذكره المستدل ، كالحرية مع الإسلام والتكليف في مسألة الأمان ؛ فقد مر الكلام عليه . وإن ادعى استقلاله بالحكم كوصف الرجولية في المرتد ، والطعم مع الكيل في الربا ؛ " كفى المستدل " في جواب المعترض " بيان رجحان ما ذكره " أعني المستدل " بدليل " يدل على رجحانه أو بتسليم من المعترض ، ولا يلزمه بيان عدم مناسبة ما ذكره المعترض ، لأن المقصود بيان رجحان ما ذكره هو وأولويته ، وذلك مثل أن يبين أن تعليل قتل المرتد بتبديل الدين أرجح من تعليله بوصف الرجولية ، وأن تعليل تحريم التفاضل بالكيل أو الطعم مثلا ، أرجح من تعليله بغيره . وبيان ذلك بطرقه سهل يسير .
قوله : " وأما في الفرع " . هذا أحد قسمي المعارضة ، وهي إما في الأصل ، وإما في الفرع .
قوله : " بذكر ما يمتنع معه ثبوت الحكم فيه ، إما بالمعارضة بدليل آكد من نص أو إجماع ، فيكون ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار كما سبق " .
أي : المعارضة في الفرع تكون بأمرين :
أحدهما : ذكر دليل آكد من قياس المستدل من نص أو إجماع يدل على خلاف ما دل عليه قياسه ، فيتبين أن ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار لمخالفته النص أو الإجماع . وهذا هو فساد الاعتبار ، كما سبق في موضعه .
مثال ذلك : لو قال الحنفي في رفع اليدين في الركوع والرفع منه : ركن من [ ص: 540 ] أركان الصلاة ، فلا يشرع فيه رفع اليدين كالسجود ، فيقول له الخصم : هذا خلاف الحديث الصحيح من رواية nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر - رضي الله عنهما - " nindex.php?page=hadith&LINKID=1022446أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في ثلاثة مواطن : عند الإحرام ، والركوع ، والرفع منه " ، فيكون قياسك فاسد الاعتبار لمخالفة النص . أو يقول : نقل عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر - رضي الله عنهما - في جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرفعون أيديهم ولم ينكره منكر ، فيكون إجماعا سكوتيا ، وقياسك على خلافه ، فيكون فاسد الاعتبار .
قوله : " وإما بإبداء وصف في الفرع مانع للحكم فيه أو للسببية " .
هذا هو الأمر الثاني الذي تكون به المعارضة ، وهو أن يبدي المعترض في فرع قياس المستدل وصفا يمنع ثبوت الحكم فيه ، أو يمنع سببية وصف المستدل ، أي : يمنع كون وصفه سببا لثبوت الحكم .
وحاصل هذا يرجع إلى أن المعترض يبين ما يمنع علة المستدل ، أو ثبوت الحكم وفرعه .
مثال منع الحكم : أن يقول المستدل في المثال المذكور : ركن ، فلا يشرع فيه رفع اليد كالسجود ، فيقول المعترض : ركن ، فيشرع فيه رفع اليد كالإحرام ، فقد منع الحكم وهو عدم مشروعية رفع اليدين ، وقاسه على أصل آخر ، وهو حقيقة القلب ، وهو نوع معارضة كما ذكر في موضعه .
[ ص: 541 ] ومثال منع السببية : أن يقول الحنبلي في المرتدة : بدلت دينها ، فتقتل كالرجل ، فيقول الحنفي : أنثى ، فلا تقتل بكفرها ، كالكافرة الأصلية ، فبين أن تبديل الدين ليس سببا لقتل المرأة .
وكذلك لو قال في قيمة العبد المتلف : مال مملوك لمعصوم ، فيضمن بكمال قيمته ، وإن زاد على الألف كالبهيمة ، فيقول المعترض : إنسان معصوم ، فلا يزيد بدله على الألف كالحر ، فبين أنه ليس العلة في ضمانه كونه مالا بل كونه إنسانا معصوما ، وهو راجع إلى قياس الشبه المتردد بين أصلين .
واعلم أن منع السببية أعم من منع الحكم ، لأن منع سببية وصف المستدل قد يلزمه منع الحكم بأن لا يكون صالحا لإثباته إلا هو ، ولا وصف المعترض الذي يبديه ، وقد لا يلزمه منع الحكم بأن يكون وصف المعترض صالحا لإثباته خالف الوصف المستدل في ذلك .
قوله : " فإن منع الحكم ، احتاج في إثبات كونه مانعا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه " في علته وأصله وقوة علته ، كما ذكرناه في مثال رفع اليدين حيث قال المستدل : ركن فلا يرفع فيه اليدين كالسجود ، فالسجود الذي هو الأصل ركن ، والعلة وصف شبهي ، وهو كون الركوع ركنا كالسجود ، فقال المعترض : ركن فيرفع فيه اليدين كالإحرام ، فالإحرام الذي هو الأصل ركن ، والعلة أيضا وصف شبهي ، وذلك لأن المعارض يجب أن يكون مقاوما للمعارض - بفتح الراء - ولا يقاومه إلا إذا ساواه في [ ص: 542 ] أوصافه الخاصة .
قوله : " وإن منع السببية ، فإن بقي احتمال الحكمة معه ولو على بعد لم يضر المستدل لإلفنا من الشرع اكتفاءه بالمظنة ومجرد احتمال الحكمة ، فيحتاج المعترض إلى أصل يشهد لما ذكره بالاعتبار ، وإن لم يبق ، لم يحتج إلى أصل ، إذ ثبوت الحكم تابع للحكمة وقد علم انتفاؤها " .
يعني أن الوصف الذي أبداه المعترض إما أن يمنع الحكم في الفرع ، وقد سبق بيانه ، أو يمنع سببية الوصف الذي علل به المستدل . وحينئذ إما أن يبقى احتمال حكمة وصف المستدل مع ما أبداه المعترض أو لا يبقى ، " فإن بقي احتمال الحكمة " " ولو على بعد " ، أي : ولو كان احتمالا بعيدا ، لم يضر ذلك المستدل ، لأن احتمال حكمة وصفه باق ، والوصف مظنة له ، وقد ألفنا من الشارع أنه يكتفي في ثبوت الحكم بوجود مظنته ، ومجرد وجود احتمال حكمته ، وهذا حاصل ، وحينئذ يحتاج المعترض إلى أصل يشهد للوصف الذي أبداه بالاعتبار حتى يقوى على إبطال وصف المستدل .
ومثال ذلك من المحسوس : شخص جاء يكابر شخصا على أن يخرجه من داره ، فخرج بنفسه ، وبقي عياله ورحله فيها ، فيحتاج المكابر له إلى قطع علائقه عنها بالكلية حتى يتمكن هو منها . أو إنسان نازع شخصا راكبا بهيمة على أخذها منه ، فأنزله عنها ، وبقي خرجه عليها ، أو مقودها في يده ، فيحتاج المنازع إلى إلقاء خرجه عنها ، أو فك مقودها من يده حتى يستويا بالنسبة [ ص: 543 ] إليها ، وإلا فما دام لراكبها بها علقة كان أحق بها ، فكذلك الكلام في وصف المستدل إذا عورض ، وبقيت حكمته ، كان أولى بالاعتبار حتى يأتي المعترض بما يدل على اعتبار وصفه ، فيستويان حينئذ في الاعتبار أو السقوط .
ومثاله من الأحكام أن يقول الحنبلي في النبيذ : مسكر فكان حراما كالخمر ، فيقول الحنفي : غير مقطوع بتحريمه أو : غير مجمع على تحريمه ، فلا يحرم كالخل واللبن ، فيقال له : الحكمة في الإسكار باقية على ما لا يخفى ، والمسكر مظنة لها ، وذلك كاف في ثبوت التحريم عملا بوجود المظنة حتى تأتي أنت أيها المعترض بشاهد على اعتبار وصفك وهو أن ما ليس مقطوعا بتحريمه ، أو مجمعا على تحريمه لا يكون حراما . وإن لم تبق حكمة وصف المستدل مع ما أبداه المعترض ، لم يحتج - يعني المعترض - إلى أصل يشهد لما ذكره بالاعتبار ، لأن ثبوت الحكم تابع لبقاء الحكمة ، لأنها المقصود به ، وهو وسيلة إليها ، وقد علم انتفاؤها ، ومع انتفاء المقصود لا فائدة في بقاء الوسيلة .
ومثال ذلك : مسألة ضمان العبد ونظائرها من قياس الشبه ، فإن الأشباه قد تتعادل ، فلا تبقى حكمة شبه المستدل ، كما إذا قال : مال لمعصوم ، فيضمن بكمال قيمته كالبهيمة ، فالحكمة فيه ظاهرة ، وهو تحصيل العدل بجبر ما فات من مال المالك بقيمة الفائت ، فإذا قال المعترض : إنسان معصوم ، فلا يزيد بدله على الألف كالحر ؛ كانت هذه حكمة مقاومة ، أو مقاربة للأولى [ ص: 544 ] من جهة أن الشرع قدر بدل الإنسان المعصوم ألفا ، فالزائد عليه افتئات عليه ، فطعن في حكمته ، وهذا إنسان معصوم ، فلا يحتاج المعترض ههنا إلى أصل يشهد لما ذكره بالاعتبار لمقاومته وصف المستدل بنفسه ، لكن على المستدل أن يرجح وصفه على وصف المعترض بأن يقول : ما ذكرته متجه ، لكن ما ذكرته أنا أرجح ، لأن العبد في باب الضمان والإتلاف أشبه بالبهيمة منه بالحر ، لأن شبه المالية فيه أمكن من شبه الحرية لثبوت أحكام الأموال فيه من ورود عقود المعاوضات ونحوها عليه ، وأحكام الأحرار لا يتثبت فيه شيء منها إلا قليل لا معول عليه ، فكان بالمال أشبه ، فألحق به في الضمان بقيمته بالغة ما بلغت .
قوله : " وفي المعارضة في الفرع ينقلب المعترض مستدلا على إثبات المعارضة ، والمستدل معترضا عليها بما أمكن من الأسئلة " .
قلت : وذلك لأن المعارضة هي المقابلة على جهة ، والممانعان كل واحد منهما مانع لمقصود خصمه ، مثبت لمقصوده هو ، فإذا للمعارضة جهتان :
إحداهما : جهة منع مقصود المستدل فيحتاج المعترض فيها إلى تقدير ذلك المنع بالدليل ، مثل أن يستدل الحنبلي على عدم كراهة سؤر الهرة : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصغي لها الإناء ، فتشرب . فيقول الحنفي : ما ذكرت من [ ص: 545 ] الدليل وإن دل ؛ غير أن عندي مانعا يعارضه ، ويدل على كراهة سؤر الهرة ، وهو قوله - عليه السلام - : الهرة سبع ، فعملت بحديث الإصغاء في الطهارة ، وبهذا الحديث في الكراهة جمعا بين الحديثين في العمل ، فهو أولى من إلغاء أحدهما .
الجهة الثانية للمعارضة : إثبات مطلوب المعترض كما ذكر من إثبات كراهية سؤر الهرة ، فهو من الجهة الأولى مانع ، ومن هذه الجهة مستدل ، فبالضرورة يحتاج المستدل إلى أن ينقلب معترضا على استدلال المعترض ، ليسلم له دليله ، فيعترض عليه بما أمكن من الأسئلة الواردة على النص ، أو القياس مما سبق ، فيقول ههنا : لا نسلم صحة الحديث المذكور . سلمناه ؛ لكن السبعية فيه ليست حقيقة ، بل مجازا شبهيا صوريا ، كما يقال للطويل : [ ص: 546 ] نخلة ، لاشتباههما في الطول ، وللمعتدل وللقد : رمح لاشتباههما في الاعتدال والاهتزاز . سلمناه ؛ لكن حديثنا أصح وأثبت ، فيرجح ، والمرجوح مع الراجح عدم في الحكم ، وأشباه ذلك من الأسئلة على النص .
وإن كانت المعارضة قياسا ؛ اعترض المستدل عليه بأسئلة القياس المذكورة للاستفسار وفساد الوضع والاعتبار والمنع ونحوه من الأسئلة على ما شرح فيها .
وأصل ذلك : أن المعارضة بالنسبة إلى المستدل كالدليل الابتدائي بالنسبة إلى المعترض ، وكل واحد منهما يصير مستدلا معترضا من جهتين ، كما أن المختلفين في قدر الثمن ونحوه ، كل واحد منهما مدع منكر من جهتين .
وقد زعم قوم أن المعارضة لا تقبل ، لأنها بناء من المعترض ، إذ هي تقرير دليل في حكم المستأنف ، ووظيفة المعترض أن يكون هادما لما يذكره المستدل ، فلا يصح منه خلاف وظيفته ، كما لو غصب المستدل منصبه في الاستدلال . والصحيح أنها سؤال مقبول ، لأنها وإن كانت بناء فهي بناء بالعرض ، وهي بالذات هدم لما بناه المستدل ، وهو المقصود منها ، فأشبهت المنع ، والله تعالى أعلم بالصواب .