لنا : القطع بالجواز ، بشرط تقديم الإسلام ، كأمر المحدث بالصلاة ، بشرط تقديم الطهارة . ومنع الأصل ، يستلزم أن لو ترك الصلاة عمره لا يعاقب إلا على ترك الوضوء . والإجماع على خلافه والنص ، نحو ولله على الناس حج البيت ياأيها الناس اعبدوا .
قوله : " لنا القطع بالجواز بشرط تقديم الإسلام " إلى آخره . يعني أن النزاع في المسألة ، إما في جوازها عقلا ، أو في وقوعها شرعا .
أما الجواز عقلا ، فمقطوع به ، إذ لا يمتنع أن يقال : أنتم مأمورون بالصلاة والزكاة ونحوهما ، بشرط أن تقدموا الشهادتين ، كما أن المحدث مأمور بالصلاة بشرط تقديم الطهارة التي هي من شروط صحة الصلاة .
قوله : " ومنع الأصل " إلى آخره ، أي : منع أن المحدث مخاطب بالصلاة بشرط تقديم الطهارة ، " يستلزم أن " المحدث " لو ترك الصلاة عمره لا يعاقب إلا على ترك الوضوء " لأنه حينئذ ليس مأمورا بغيره ، ثم إذا فعله أمر بالصلاة " والإجماع خلافه " أي : خلاف أنه لا يعاقب إلا على ترك الوضوء ، بل يعاقب على جميع الصلوات الفائتة طول عمره ، وذلك يدل على أنه مكلف بها .
وفرع الشيخ أبو محمد وغيره على هذا الإلزام ، أن المحدث لو توضأ وترك الصلاة ، يلزم أن لا يعاقب إلا على تكبيرة الإحرام ، لاشتراط تقديمها ، وهو إلزام غير جيد ، لأن التكبيرة جزء الصلاة ، وليست حقيقة مستقلة منفردة عنها ، كالوضوء ، اللهم إلا أن ينزلوا أجزاءها منزلة الحقائق المستقلة ، مؤاخذة بما اقتضاه لفظ الخصم من [ ص: 208 ] اشتراط التقديم ، وجزء الشيء يتقدمه ، ويتوقف الشيء عليه . وبالجملة : هذا تدقيق ، ليس وراءه تحقيق ، إنما هو من باب إعنات الخصم .
وقولي : " ومنع الأصل " أي : منع حكم المحدث المذكور ، يستلزم ما قررناه ، لأنا جعلنا حكم المحدث - وهو تكليفه بالصلاة - بشرط تقديم الوضوء ، أصلا لحكم الكافر - وهو تكليفه بالفروع - بشرط تقديم الإيمان .
قال الكناني في " مطالع الأحكام " : مأخذ المسألة ، أنه ليس في ترتيب الثواني على الأوائل ما يخرجها عن أن تكون ممكنة .
قلت : معناه ، أن ترتيب التكليف على اشتراط تقديم الإيمان ، هو ترتيب أمر ثان على وجود أمر أول ، وليس ذلك ممتنعا ، ولا موجبا للامتناع ، كالآحاد المترتبة في مراتب العدد ، فإن كل واحد منها مترتب الوجود على ما قبله ، الثاني على الأول ، والثالث على الثاني ، وهلم جرا .
قال أيضا : وإذا ثبت معاقبتهم على ترك الإيمان إجماعا فلتصح معاقبتهم على ترك الصلاة ، إذا مضى من الوقت ما يسع الفعل الأول ، يعني إذا مضى من وقت التكليف ببلاغ الخطاب ما يسع فعل الإيمان ، بأن يقول الكافر : آمنت ، أو يأتي بالشهادتين ، أو يعتقد ذلك .
قوله : " والنص " إلى آخره . هو عطف على قوله : القطع ، في قوله : " لنا ، القطع بالجواز " أي : لنا القطع بالجواز والنص على الوقوع المستلزم للجواز ، نحو قوله سبحانه وتعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] ، وقوله [ ص: 209 ] سبحانه وتعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ البقرة : 21 ] . وسائر الخطاب الوارد بلفظ الناس ، وهو عام في المؤمنين والكفار ، بل هو في الأصل للكفار ، لأن العالم كلهم كانوا كفارا قبل ورود الخطاب ، فلما ورد لم يرد إلا على كافر ، فهدى الله سبحانه وتعالى لاتباعه بعضا دون بعض .
والحج في الآية الأولى من فروع الإسلام ، والعبادة في الثانية تعم جميع الفروع والأصول ، لأنها في اللغة التذلل ، وفي الشرع التذلل بمتابعة مرسوم الشرع من أمر أو نهي .