وقد حكم داود - عليه السلام - باجتهاده وإلا لما خالفه سليمان ، وإلا لما خص بالتفهيم .
المسألة " الثانية : يجوز أن يكون النبي - عليه الصلاة والسلام - متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، خلافا لقوم " .
اعلم أن ما فيه نص إلهي ؛ لا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد فيه بخلاف النص شرعا ، لقوله - عز وجل - : اتبع ما أوحي إليك [ الأنعام : 106 ] . أما ما [ ص: 594 ] لا نص فيه ، فهل هو متعبد بالاجتهاد فيه أم لا ؟ والمذاهب فيه أربعة :
أحدها : الإثبات ، وهو مذهب أحمد ، والقاضي أبو يوسف .
والثاني : النفي ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=13980أبي علي الجبائي ، وابنه أبي هاشم .
والثالث : الإثبات في الحروب والآراء ، دون الأحكام الشرعية .
والرابع : تجويزه من غير قطع به . حكاه nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في رسالته .
قال : وبه قال بعض الشافعية ، nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري .
والتحقيق أن الكلام في جواز ذلك ووقوعه ، والأصح جوازه ، إذ لا يلزم منه محال ، ولا أحسب أحدا ينازع في الجواز عقلا ، إنما ينازع من ينازع فيه شرعا .
وأما الوقوع ، فحكى nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي فيه أقوالا ، ثالثها الوقف واختاره . وقال القرافي : توقف أكثر المحققين في الكل ، واختار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي الجواز والوقوع .
وذكر القرافي أن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأبا يوسف قالا بالوقوع .
قوله : " لنا " ، أي : الدليل على جواز كونه متعبدا بالاجتهاد أنه " لا محال " فيه " ذاتي ولا خارجي " ، أي : لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لأمر خارج ، وكل ما كان كذلك ، فهو جائز .
قوله : " قالوا : " . هذه حجة الخصم .
وتقريرها : أنه - عليه السلام - يمكنه تحقيق الأحكام ، وتحقيقها بالوحي ، " والاجتهاد عرضة الخطأ " فلا يجوز المصير إليه مع القدرة على الصواب قطعا . وهذا نحو مما سبق لهم في المسألة قبلها .
قوله : " قلنا : " ، أي : الجواب عما ذكرتموه من وجهين :
أحدهما : أن " الظن متبع " في الشرع ، واجتهاده - عليه السلام - أقل أحواله [ ص: 596 ] أن يفيد الظن ، فيجب اتباعه كغيره ، وأولى .
الثاني : أن الاجتهاد يفيد الظن ، وظنه - عليه السلام - لا يخطئ لعصمة الله - عز وجل - له ، بخلاف غيره من الناس ، أو يخطئ لكنه لا يقر عليه ، بل ينبه على الخطأ ، فيستدركه ، والكلام في " المختصر " إلى ههنا في الجواز .
ومما يدل عليه : مسألة التفويض ، وهي ما إذا قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احكم برأيك ، فإنك لا تحكم إلا بالحق ، والصحيح جوازه . وهو اجتهاد فيما لا نص فيه ، وفيه نظر .
قوله : " أما وقوعه " ، أي : وقوع الاجتهاد منه فيما لا نص فيه ، " فاختلف فيه أصحابنا والشافعية ، وأنكره أكثر المتكلمين " . وقد سبقت حكاية المذاهب فيه .
قوله : لنا " اعتبروا " إلى آخره . أي : لنا على وقوعه وجوه :
أحدها : قوله - عز وجل - : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، وهو عام في الرسول وغيره ، فيتناوله الأمر بالاعتبار ، وهو الاجتهاد ، ويجب عليه الامتثال ، وإلا كان عاصيا ، وهو مع عصمة النبوة محال .
قلت : هذا يقتضي وجوب الاجتهاد عليه .
الوجه الثاني : أنه - عليه السلام - " عوتب في أسارى بدر " ، حيث قبل منهم الفداء ، ولم يقتلهم ، بقوله تعالى : ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله - عز وجل - : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 67 ، 68 ] ، وعوتب في إذنه للمخلفين عن القتال في غزاة تبوك ، بقوله - عز وجل - : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : [ ص: 596 ] 43 ] ، ولو كان ذلك عملا منه بالنص ، لما عوتب ، فدل على أنه كان بالاجتهاد .
قلت : إنما يدل هذا على جواز الاجتهاد إن دل ، والكلام في الوقوع . ولما قتل النضر بن الحارث ببدر ، جاءت أخته قتيلة بنت الحارث ، فأنشدته أبياتا منها : [ ص: 597 ]
أمحمد ولأنت نجل كريمة من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال - عليه السلام - : لو سمعت شعرها قبل قتله ، ما قتلته ، ولو قتله بالنص ، لما قال ذلك .
" وقال له السعدان " : يعني nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ nindex.php?page=showalam&ids=228وسعد بن عبادة - رضي الله عنهما - لما أراد صلح الأحزاب على شطر نخل المدينة ، وقد كتب بعض الكتاب بذلك : إن كان بوحي ، فسمعا وطاعة ، " وإن كان باجتهاد ، فليس هذا هو الرأي " ، وكذلك الحباب بن المنذر ؛ لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل ببدر دون الماء ؛ قال له : إن كان هذا بوحي ، فنعم ، وإن كان الرأي والمكيدة ، فانزل بالناس على الماء ، لتحول بينه وبين العدو ، فقال لهم : ليس بوحي إنما هو رأي واجتهاد رأيته " ورجع إلى قولهم " ، فدل على أنه متعبد بالاجتهاد .
[ ص: 598 ] قلت : ومن يفرق بين الحروب والآراء ، والأحكام لا يلزمه هذا ، ولا قصة النضر بن الحارث ، وفداء الأسارى ، والإذن للمخلفين ، لأنها من متعلقات الحروب .
ويرد على هذه الصور جميعها جواز اقتران الوحي بها ، أو تقدمه عليها ، بأن يكون قد أوحي إليه : إذا كان كذا فافعل كذا ، وتخصيص قضية الحج بأن يكون معنى كلامه : لو قلت : لعامنا ، لما قلت إلا عن وحي ، ولوجب - لا محالة - تكراره .
الوجه الرابع : أن داود وسليمان عليهما السلام حكما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم باجتهادهما ، أما داود ؛ فلأنه لو لم يكن حكم باجتهاده ، لما جاز لسليمان - عليه السلام - أن يخالفه ، ولا لداود أن يرجع إليه ، وأما سليمان ؛ فلأنه لو لم يكن حكم باجتهاده ، لما خص بالتفهيم بقوله - سبحانه وتعالى - : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] على طريق المدح .
ولقائل أن يقول : يحتمل أن سليمان لم يعلم أن داود حكم بالوحي ، فلذلك خالفه ، وأن تفهيم سليمان كان بالنص كقوله - عز وجل - : وعلمك ما لم تكن تعلم [ النساء : 113 ] وهو بالوحي .
ويجاب عنه : بأن داود لو حكم بالوحي ، لما رجع إلى قول سليمان ، ولرجع سليمان عن رأيه لما علم بالوحي ، وسليمان لم يكن بعد قد أوحي إليه ، لأن القصة كانت وهو صبي بعد . وفي هذه القصة دليل على جواز تعبد نبينا - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده ، لأن هذين نبيان قد حكما باجتهادهما . وقد أمر أن يقتدي بهما وبغيرهما من الأنبياء ، لقوله - عز وجل - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] . ولقائل أن يقول : الأمر بالاقتداء بهم مطلق لا عموم له ، فلا يتناول الحكم بالاجتهاد .