[ ص: 638 ] السابعة : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها ، فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها ، إذ الحكم يتبع العلة ، وإن لم يبين العلة فلا ، وإن أشبهتها ، إذ هو إثبات مذهب بالقياس ، ولجواز ظهور الفرق له لو عرضت عليه ، ولو نص في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج ، كما لو سكت عن إحداهما وأولى ، والأولى جواز ذلك بعد الجد والبحث من أهله ، إذ خفاء الفرق مع ذلك وإن دق ممتنع عادة .
وقد وقع في مذهبنا ، فقال في " المحرر " : ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه ، وأعاد ، نص عليه ، ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى فيه أنه لا يعيد ، فيتخرج فيهما روايتان ، وذكر مثل ذلك في الوصايا والقذف ، ومثله في مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي كثير .
ثم التخريج قد يقبل تقرير النصين وقد لا يقبل .
المسألة " السابعة : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها ، فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها " ، أي : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة ، وبين علة ذلك الحكم ما هي ، ثم وجدت تلك العلة في مسائل أخر ؛ فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المنصوص عليها ، لأن " الحكم يتبع العلة " فيوجد حيث وجدت ، ولأن هذا قد [ ص: 639 ] وجد في كلام صاحب الشرع ، ففي كلام المجتهدين كذلك وأولى ، لأن الله - عز وجل - أوجب الكفارة في سياق ذمهم بأنهم يقولون : منكرا من القول وزورا [ المجادلة : 2 ] ، ففهمنا من ذلك تعليل وجوب الكفارة بقول المنكر والزور على جهة العقوبة ، فقلنا : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي ؛ لزمتها الكفارة ، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور كما علل به الخرقي . وقد يرد على هذا أنه يقتضي جعل المرأة مظاهرة وقد نفاه الخرقي ، وإنما أوجب عليها كفارة الظهار .
قلت : والتزام ذلك لا يمتنع . ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهرة : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022467إنها من الطوافين ووجدت علة الطواف في غيرها ؛ جعلنا حكم الشرع في ذلك واحدا . وقد روى أحمد ، أو روي له : أن قوما على ماء لهم مر بهم قوم آخرون ، فاستسقوهم فلم يسقوهم حتى ماتوا عطشا ، فضمن عمر أصحاب الماء دياتهم . فقيل لأحمد : أتقول بهذا ؟ قال : إي والله ؛ يقول عمر - رضي الله عنه - ولا آخذ به ! فلما علل بأن عمر - رضي الله عنه - قاله ؛ دل على أنه يأخذ بقول عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - في كل حكم ما لم يمنعه مانع ، وأن قول الصحابي عنده حجة مطلقا .
قوله : " وإن لم يبين العلة " يعني المجتهد إذا نص على حكم في مسألة ، ولم يبين علته " فلا " أي : فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها [ ص: 640 ] من المسائل ، " وإن أشبهتها " يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها في الصورة ، لأن ذلك " إثبات مذهب " له " بالقياس " بغير جامع " ولجواز ظهور الفرق له " أي : للمجتهد " لو عرضت عليه " المسألة التي لم ينص على حكمها أي : لو عرض على المجتهد المسألتان التي نص على حكمها وغيرها لجاز أن يظهر له الفرق بينهما ، فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره . وحينئذ لا يجوز لنا أن نثبت له حكما - يجوز أن يبطله بظهور الفرق له ، بخلاف ما إذا نص على علة الحكم في مسألة فألحقنا بها غيرها بعلته فيها ، فإنه لا يجوز أن يظهر للمجتهد فرق لو عرضتا عليه .
قوله : " ولو نص " ، يعني المجتهد " في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين ؛ لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج كما لو سكت عن إحداهما وأولى " .
أي : كما أنه إذا نص على حكم في مسألة ، وسكت عن مسألة أخرى تشبهها ، فلم ينص على حكم فيها ، فلم يجز أن ينقل حكم المنصوص عليها إلى المسكوت عنها ، كذلك إذا نص على المسألتين بحكمين مختلفين لم يجز أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ويخرجه قولا له فيها فيصير له فيها قولان ، بل هذا أولى بالمنع ، لأنه إذا لم يجز نقل حكم المنصوص عليه إلى المسكوت عنه الذي لم ينص عليه بنفي ولا إثبات ، فأولى أن لا ينقله إلى منصوص عليه بنقيض الحكم ، لأنا في الأول نكون قد قولناه ما لم يقله ، مع أنه لو قال في المسألة المسكوت عنها لجاز أن يقول كما قولناه فيها ، وفي الثانية قولناه نقيض ما قال ، فلا يتصور موافقته لنا فيها الآن بحال .
[ ص: 641 ] قوله : " والأولى جواز ذلك " ، أي : جواز نقل حكم إحدى المسألتين المشتبهتين المنصوص على حكمهما إلى الأخرى ، إذا كان ذلك " بعد البحث والجد " فيه " من أهله " ، أي : من أهل النظر والبحث ممن تدرب في النظر ، وعرف مدارك الأحكام ومآخذها ، لأن " خفاء الفرق " بين المسألتين الذي يقتضي اختلافهما في الحكم " مع ذلك " ، أي : مع أهلية النظر " ممتنع " في العادة " وإن دق " يعني ذلك الفرق .
وقوله : " وقد وقع " - يعني النقل والتخريج - " في مذهبنا ، فقال في المحرر " : لنا في باب ستر العورة : " ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه وأعاد ; نص عليه ، ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد ، فيتخرج فيهما روايتان " ، وذلك لأن طهارة الثوب والمكان ، كلاهما شرط في الصلاة ، وهذا وجه الشبه بين المسألتين . وقد نص في الثوب النجس أنه يعيد فينقل حكمه إلى المكان ، ويتخرج فيه مثله ، ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد ، فينقل حكمه إلى الثوب النجس ، فيتخرج فيه مثله ، فلا جرم صار في كل واحدة من المسألتين روايتان إحداهما بالنص والأخرى بالنقل .
قوله : " وذكر " يعني صاحب " المحرر " مثل ذلك " ، أي : مثل ما ذكرناه من النقل والتخريج " في الوصايا والقذف " .
[ ص: 642 ] فقال في الوصايا : ومن وجدت له وصية بخطه عمل بها ; نص عليه ، ونص فيمن كتب وصيته وختمها وقال : اشهدوا بما فيها : أنه لا يصح ، فتخرج المسألتان على روايتين . ووجه الشبه بين المسألتين أن في كل واحدة منهما قد وجدت وصيته بخطه ، وقد نص فيهما على حكمين مختلفين ، فيخرج الخلاف في كل واحدة منهما بالنقل والتخريج كما سبق .
وقال في القذف : ومن قال لامرأته : يا زانية ، فقالت : بك زنيت ; سقط عنه حقها بتصديقها ، ولم تكن قاذفة له ; نص عليه ، ونص فيمن قال لزوجته : زنى بك فلان . إنه قاذف لهما ، فتخرج المسألتان على روايتين . ووجه الشبه بينهما أنها في قولها له : بك زنيت قاذفة له بالالتزام والتبع ، وهو في قوله لها زنى بك فلان ; قاذف لفلان بالتبع . وقد اختلف نصه في المسألتين فيخرج الخلاف كما سبق .
قوله : " ومثله " ، أي : ومثل ما حكيناه عن مذهبنا من النقل والتخريج " في مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي كثير " . وذلك لاختلاف نصوص nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - في المسائل المشتبهة .
قوله : " ثم التخريج قد يقبل تقرير النصين ، وقد لا يقبل " . يعني أنا إذا خرجنا حكم كل واحدة من المسألتين في الأخرى لاشتباههما ، فقد يمكننا بتدقيق النظر أن نقرر كل مسألة على ما نص فيها الإمام فقط من غير نقل حكم إحداهما إلى الأخرى ، بأن نبدي بينهما فرقا مناسبا لاختصاص كل واحدة منهما بما نص عليه فيها . فهذا يسمى تقرير النص . وقد لا يمكننا ذلك بأن لا يظهر بينهما فرقا مؤثرا مناسبا كذلك ، فلا يكون التخريج قابلا للتقرير .
مثال ما يقبل التقرير : مسألة القذف المذكورة ، فإن الصورتين وإن اشتبهتا [ ص: 643 ] من حيث ذكرنا ، لكن الفرق بينهما من جهة أنها إذا قالت له : بك زنيت ، فهي غير قاصدة لقذفه ، وإنما قصدت إلزامه بمثل ما ألزمها ، وتوبيخه على تعبيره لها بفعل قد فعل مثله ، وذلك مما تنكره العقول السليمة ، كأنها قالت : إن عيرتني بالزنى فعير نفسك لأني وأنت اشتركنا فيه .
أما إذا قال لها : زنى بك فلان ، فقد قصد قذفها ، وأسنده إلى فلان إسناد الفاعلية ، بخلاف قولها هي له : بك زنيت ، فإنها إنما أضافت الزنى إضافة الفاعلية إلى نفسها دونه ، فلذلك لم تكن قاذفة له ، بخلافه هو حيث كان قاذفا لها .
ومثال ما لا يقبل التقرير مسألة الوصية ، فإنه لا يكاد ينقدح بين صورتيها فرق مؤثر .
أما مسألة ستر العورة ، ففي قبولها للتقرير نظر ، إذ من جهة اشتراك الثوب [ ص: 644 ] والمكان في الاشتراط يتعذر وجود الفارق المؤثر بينهما ، ومن جهة أن المكان من ضرورات الصلاة وغيرها من الأفعال عقلا ، إذ لا يتصور فعل إلا في مكان ، بخلاف الثوب فإنه ليس من ضروراتها عقلا ، إذ يتصور فعلها بدونه ، كصلاة العريان ينقدح الفرق بينهما فيتجه التقرير .
فائدة : كثيرا ما يقع في كلام الفقهاء : في هذه المسألة قولان بالنقل والتخريج ، وصفته ومثاله ما ذكرنا ، ويقولون أيضا : يتخرج أن يكون كذا ، وتتخرج هذه المسألة على مسألة كذا ، أو في هذه المسألة تخريج ، فيقال : ما الفرق بين التخريج ، وبين النقل والتخريج ؟ .
والجواب : أن النقل والتخريج يكون من نص الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك بين محلين كما ذكرنا من الأمثلة ، والتخريج يكون من قواعده الكلية .
مثاله : قولنا : لا يصح التيمم لفرض قبل وقته ، ولا لنفل في وقت المنع منه ، ويبطل التيمم بخروج الوقت ، ولا يصلي به حتى يحدث ، ويتخرج خلاف ذلك كله بناء على أن التيمم يرفع الحدث ; وهو قاعدة من قواعد التيمم ، وإن كان مرجوعا عنه عندنا .
وقولنا : إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة خرج فتطهر وابتدأها ، ويتخرج أن يتطهر ويبني بناء على من سبقه الحدث في الصلاة هل يستأنف أو يبني .
[ ص: 645 ] واعلم أن التخريج أعم من النقل والتخريج ، لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام ، أو الشرع ، أو العقل ، لأن حاصله أنه بناء فرع على أصل بجامع مشترك ، كتخريجنا على قاعدة تفريق الصفقة فروعا كثيرة ، وعلى قاعدة تكليف ما لا يطاق أيضا فروعا كثيرة في أصول الفقه وفروعه ، كما ذكرنا في غير هذا الكتاب .