قوله : " قالوا : وجوبها مع استحالة فعلها في الكفر ، وانتفاء قضائها في الإسلام ، غير مفيد " .
هذا دليل المانعين من تكليفهم بالفروع . وتقريره : أن التكليف لا بد وأن يكون مفيدا ، إذ هو لغير فائدة عبث محال على الشرع . والفائدة إما أن تكون صحة فعلها حال الكفر ، أو وجوب قضائها بعد الإسلام ، وكلاهما منتف ، لأن الكافر لا تصح منه عبادة فرعية حال كفره ، ولا يجب عليه قضاؤها بعد الإسلام ، فينتفي التكليف لانتفاء فائدته .
قوله : " قلنا " إلى آخره . هذا جواب السؤال الذي تضمنه دليلهم .
وتقريره : أن وجوبها حال الكفر ، إنما هو بشرط تقديم الشرط - وهو الإيمان - كما سبق أول المسألة ، فلا يرد قولهم : إن وجوبها حال الكفر مع عدم صحتها منهم ، لأن المحال إنما يلزم لو أوجبناها عليهم مطلقا ، ونحن إنما نوجبها بشرط تقديم الإيمان ، وأما عدم وجوب قضائها عليهم بعد الإسلام ، فنقول :
قضاء العبادات اختلف فيه ، هل هو بأمر جديد ، أو بالأمر الأول ؟ يعني : [ ص: 211 ] الخطاب الذي ثبت به أصل التكليف ، كما سيأتي في موضعه ، إن شاء الله تعالى . فإن قلنا : هو بأمر جديد ، سقط السؤال ، لأنا نقول : قضاء العبادات ، إنما لم يجب عليهم بعد الإسلام ، لانتفاء ورود الأمر الجديد بها ، لا أنها لم تكن واجبة عليهم حال الكفر .
وإن قلنا : إن القضاء بالأمر الأول ، قلنا : هم مأمورون بها حال الكفر ، لكن سقط قضاؤها عنهم بعد الإسلام بدليل شرعي متجدد ، نحو قوله - عليه السلام - : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022024الإسلام - يجب ما قبله ، والحج يجب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها أي : يقطع ما قبله من أحكام الكفر ، حتى كأن الكافر بعد إسلامه لم يصدر منه معصية لله تعالى أصلا ، ولحظ الشارع في ذلك مصلحة عامة ، وهو تيسير الدخول في الإسلام عليهم ، وتكثيره منهم ، إذ من أسلم بعد مائة سنة في الكفر ، لو علم أنه يلزمه قضاء صلواتها ، وسائر عباداتها ، لجبن عن الدخول فيه ، وإذا علم أنه لا يطالب بشيء من ذلك ، سهل عليه بالضرورة .
أما حقوق الآدميين ، فلا يسقطها الإسلام ، تحقيقا للعدل العام بين العالم .
ووجه الاستدلال بهذه النصوص ، أنه رتب الوعيد فيها على مجموع ترك الأصل والفرع ، فكانت الفروع جزءا من سبب الوعيد ، وذلك يستلزم أنهم مكلفون بها ، فإن قيل : المستقل بالوعيد في هذه النصوص هو الكفر وحده ، بدليل استقلاله بالتخليد .
فجوابه من وجهين :
أحدهما : لا نسلم استقلاله بالوعيد ، وهو محل النزاع ، بل الوعيد على المجموع ، لأن الفروع في النصوص المذكورة ، معطوفة بالواو وهي للجمع ، فصار كأنه قال : ويل لمن وجد منه مجموع الإشراك ومنع الزكاة . ولا يمكنهم أن يثبتوا استقلال الكفر بالتخليد ، وإن كنا نوافقهم عليه كما سبق ، لأنكم لو فرضتم كافرا أتى في حال كفره بجميع الفروع [ لم يقبل ] منه مع كفره ، وإنما كلف بها بشرط [ ص: 213 ] أن يوقعها مسلما .
الوجه الثاني : أن الكفر وإن استقل بالتخليد ، لكن يعاقبون على ترك الفروع بالمضاعفة ، كما قال سبحانه وتعالى : ومن يفعل ذلك يعني الإشراك والقتل والزنى يلق أثاما يضاعف له العذاب ، يعني على كل واحد من هذه الأشياء يعذب ضعفا من العذاب .
قلت : وهذه الفائدة ، أعني عقابهم على ترك الفروع في الآخرة ، بعض الأصوليين يعينها ، أي : لا فائدة لتكليفهم إلا ذلك ، وبعضهم ذكر هنا فوائد :
منها : تيسير الإسلام على الكافر ، فإنه إذا علم أنه مخاطب بها ربما سهل عليه فعلها ، دون فعل أصلها وهو الإيمان ، لأن فروع الشريعة كلها حسن عقلا ، تميل الطباع إليها ، وقد كان في الجاهلية من ليس بينه وبين أن يكون وليا لله إلا الشهادتان . مثل حاتم الطائي على ما عرف من جوده ، ومحبته للعدل ، ومكارم الأخلاق ، والتوكل ، والإيمان بالمعاد ، وبعض من أدرك الدعوة الإسلامية ، أجاب إلى جميع ما وردت به ، وامتنع من الصلاة ، لما فيها من إرغام الأنوف ، فإذا علم الكافر أنه مخاطب بها ، وفعلها بنية الطاعة ، والإجابة لداعي الشرع - وإن لم يكن له نية صحيحة - فربما يسر الله عليه الهدى ببركة ذلك المعروف والبر . ويروى في الحديث ، أن المؤمن ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه ، فيناسب أن يختم للكافر بالإيمان بسبب كثرة حسناته . [ ص: 214 ]
ومنها : الترغيب في الإسلام ، فإن الكافر إذا علم أنه مخاطب بالفروع ، وأنه يثبت في حقه الوجوب والحظر ، وقد أتى منها بكبائر ، كالقتل والظلم والفساد في الأرض . وأن إثم ذلك لاحق له ، ثم عرف أن الإسلام يجب ذلك كله ، ربما استشعر الخوف من عاقبة ما فعل منها ، فدعاه ذلك إلى الإسلام الهادم لها .
ومنها : الحكم بتخفيف العذاب على الكافر بفعل بعض الخيرات ، وترك بعض الشرور ، إذا عرف أنه مخاطب بها ، وفعلها جاز أن يخفف عنه العذاب في الآخرة بالنسبة إلى من لم يفعل ذلك ، فإن أهل النار فيها متفاوتون في المنازل والدركات بحسب أعمالهم ، كما أن أهل الجنة متفاوتون فيها في المنازل والدرجات بحسب أعمالهم . كما قررته في " القواعد الصغرى " .
ذكر هذه الفوائد الثلاث القرافي في " شرح التنقيح " وأحال بفوائد أخر على شرحه لـ " المحصول " .
ومن المآخذ السمعية الإجماع على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس عامة إلى قبول جميع ما جاء به .
هذا تقرير لضعف مذهب القائلين بأن الكفار مكلفون بمناهي الشرع الفرعية ، كترك المحظورات ، دون مأموراته ، كفعل الواجبات ، ووجه الفرق على قولهم : هو أن مقصود الأوامر الشرعية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بإيجادها ، وما [ ص: 215 ] يترتب عليها من مصلحة عاجلة ، كإغناء الفقراء بالزكاة ، ونحوه . والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، لا يصح إلا بعد تصديق المخبر عنه ، وذلك هو الإيمان . فمقصود الأوامر لا يتصور من الكافر قبل الإيمان ، بخلاف المناهي ، فإن مقصودها إعدام مفسدتها المترتبة عليها ، كمفسدة القتل والزنى والظلم والبغي ، ونحو ذلك .
وترك هذه المفسدة وبراءة تاركها من عهدتها لا يتوقف على تصديق ولا إيمان ، والمؤمن والكافر فيه سيان .
وتقرير الجواب أن نقول : قولكم : التقرب بالمأمورات لا يصح إلا بعد التصديق والإيمان . قلنا : نعم ، وكذلك نقول ، لكن ليس كلامنا في الصحة ، إنما هو في التكليف بها حال الكفر ، بشرط تقدم الإسلام على فعلها ، وقد سبق دليل ذلك وفوائده .
أما قولكم : إن الكافر يخرج من عهدة المنهي عنه بتركه ، فيصح تكليفه به ، بخلاف المأمورات .
قلنا : هذا موضع تحقيق وتفصيل ، وبيانه : أن الإنسان بالنسبة إلى الشرع مثاب ومعاقب ، بناء على أنه مأمور ومنهي ، فثوابه يحصل تارة عن فعل مأمور ، كالصلاة ، وتارة عن ترك محظور ، كالزنى والربا ، وعقابه يحصل ، تارة عن فعل محظور ، كالزنى ، وتارة عن ترك مأمور ، كالصلاة ، ومدار الأمر في ذلك كله على النية والقصد ، لأن القاعدة الشرعية أن الأعمال بالنيات ، ففاعل المأمور لا يثاب عليه [ ص: 216 ] الثواب الشرعي إلا بنية التقرب ، وتارك المحظور لا يثاب عليه الثواب الشرعي ، وهو ثواب من اتقى الله سبحانه وتعالى وخافه ، وآثره على نفسه ، وترك شهواته لرضاه ، إلا بنية ذلك ، والثواب والعقاب من آثار التكليف ، وكلامنا فيه .
أما براءة العهدة من مفسدة المنهي بتركه ، فذلك من قبيل العدل ، يستوي فيه المؤمنون والكفار ، والعقلاء وغيرهم ، حتى إن المجنون لو أكره امرأة على الزنى ، وجب مهرها في ماله ، ولو هم بها ، ثم كف عنها ، خرج عن عهدة الغرامة التي كانت متوقعة بفعله لو فعل ، ولم يجب في ماله شيء ، وكذلك العاقل المسلم ، لو فعل هذا بعينه ، للزمه المهر من حيث العدل ، والإثم من حيث التكليف ، ولو كف عنها بعد أن هم بها ناويا التقرب ، لبرئ من عهدة المهر ، من حيث العدل ، ومن عهدة الحد ، من حيث التكليف ، ولحصل له أجر الكف ، وثواب المتقين ، من حيث التكليف أيضا ، لقوله تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] ، ولو كف عنها غير ناو للقربة ، برئ من عهدة المهر ، من حيث العدل الثابت بين المخلوقين ، وبرئ من عهدة الحد ، من حيث التكليف بمقتضى العدل الثابت بين الله سبحانه وتعالى وخلقه ، ثم نظرنا ، فإن كان كفه خوفا من مخلوق ، فهو جبن لا تقوى ، وإن كان إيثارا لطهارة العرض ، والشجاعة على ضبط النفس ، ونحو ذلك مما يتعافاه أصحاب الهمم والنفوس الفاضلة الأبية ، فهذا محمود على عفافه العرفي ، وبالضرورة لا يساوي من كان كفه خوفا من الله تعالى ، ورغبة فيما عنده . [ ص: 217 ]
وإذا تقرر هذا ، قلنا : قولكم : الكافر يخرج من عهدة المنهي بتركه ، فيصح تكليفه . إن عنيتم أنه يبرأ من عهدة العدل ، كالغرامات المترتبة على المناهي ، فهذا ليس من باب التكليف ، بل من باب العدل ، وليس الكلام فيه .
وإن عنيتم أنه يبرأ من عهدة أذى يلحقه من المخلوقين ، في نفس أو مال أو عرض ، فهذا من باب الجبن أو العفاف العرفي .
وإن عنيتم أنه تحصل له فضيلة المتقين ، ومن نهى النفس عن الهوى ، فهذا يتوقف على نية التقرب ، ولا نية لكافر ، بحيث يترتب عليها الثواب الشرعي ، فهذا تقرير قوله : " والتكليف بالمناهي يستدعي نية الترك تقربا ، ولا نية لكافر " .
فروع :
أحدها : أن الجهاد خاص بالمؤمنين ، فقيل : لم يكلف به الكفار بالأصالة ، لعدم حصول مصلحته منهم ، لأن الله سبحانه وتعالى حيث أمر بالجهاد لم يعين الكفار ، ولم يذكر صيغة يندرجون فيها ، بل قال : ياأيها النبي جاهد الكفار [ التوبة : 72 ] ، ياأيها الذين آمنوا قاتلوا [ التوبة : 123 ] ، اللهم إلا عمومات بعيدة ، نحو : ياأيها الناس اتقوا ربكم [ الحج : 1 ] ، ومن التقوى فعل المأمور ، ومن المأمور الجهاد ، فتتناولهم هذه العمومات على بعدها ، وهو أصح طردا لحكم المسألة في جميع الفروع من غير استثناء شيء منها .
وأما عدم حصول مصلحة الجهاد منهم ، فهو مصلحة الصلاة لا تحصل [ ص: 218 ] بفعلها حال الكفر ، ولكنه مكلف بالجهاد والصلاة ، وغيرهما من الفروع ، بشرط تقديم الإسلام .
الفرع الثاني : وقع النزاع بين بعض الفقهاء في سنتنا هذه - وهي سنة ثمان وسبعمائة للهجرة المحمدية - صلوات الله على منشئها - في أن الجن مكلفون بفروع الدين أم لا ؟
واستفتي فيها شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية بالقاهرة - أيده الله تعالى - فأجاب فيها بما ملخصه أنهم مكلفون بها بالجملة ، لكن لا على حد تكليف الإنس بها ، لأنهم مخالفون للإنس بالحد فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف .
قلت : مثاله ، أن الجن قد أعطي بعضهم قوة الطيران في الهواء ، فهذا يخاطب بقصد البيت الحرام للحج طائرا .
والإنسان لعدم تلك القوة فيه ، لا يخاطب بذلك ، فهذا في طرف زيادة تكليفهم على تكليف الإنس .
والدليل على تكليف الجن بالفروع ، الإجماع على أن - النبي صلى الله عليه وسلم - أرسل بالقرآن الكريم إلى الجن والإنس ، فجميع أوامره ونواهيه متوجهة إلى الجنسين ، وهي مشتملة [ ص: 219 ] على الأصول والفروع ، نحو : آمنوا بالله [ الحديد : 7 ] ، وأقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] .
وقد تضمن هذا الدليل ، على أن كفار الإنس مخاطبون بها ، وكذلك كفار الجن ، لتوجه القرآن بجميع ما فيه إلى مؤمني الجنسين وكفارهم .
الفرع الثالث : ذكر الزنجاني في كتاب " تخريج الفروع على الأصول " أن الخلاف في أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر مبني على الخلاف في تكليفهم بالفروع .
فإن قلنا : هم مكلفون بها ، لم يملكوها ، لأن من الفروع تحريم أخذ مال الغير بالقهر ، والمأخوذ بسبب حرام لا يملك ، وهم قد أخذوا أموال المسلمين بهذا السبب المحرم ، وتحريمه ثابت في حقهم ، فلا يملكونها به .
وإن قلنا : ليسوا مكلفين بالفروع ، ملكوا الأموال بالقهر ، لأن التحريم غير ثابت في حقهم ، فيكون أخذهم لها مباحا بالنسبة إليهم .
قلت : الصحيح من مذهب أحمد أنهم يملكونها ، وهو ينافي أصله في أنهم مكلفون بالفروع ، لكن مأخذه في ملكهم لها غير ذلك ، وهو أن المسلمين يعوضون عن أموالهم الأجر ، فلو بقيت على ملكهم ، لاجتمع لهم العوض والمعوض ، وهو باطل عقلا ، وغير معهود شرعا .
قلت : وهو تقرير لطيف حسن ، غير أنه ينتقض بالمغصوب منه ، فإنه يؤجر على مصيبته في ماله المغصوب ، مع أن الغاصب لا يملكه ، ولا فرق بين الصورتين إلا الكفر والإسلام وداراهما ، ولا يظهر تأثيره في الحكم ، وأيضا ، فإن الأجر ليس عوضا [ ص: 220 ] ماليا ، وامتناع العوض والمعوض إنما هو في الماليات ، فتخريج ملك الكفار لأموال المسلمين على تكليفهم جيد .
ولهذا قال أبو الخطاب : لا يملكونها ، فكان قوله أحرى على أصول أحمد - رحمة الله عليهما - .