[ ص: 706 ] وأما الثالث : فيرجح المجرى على عمومه على المخصوص ; والمتلقى بالقبول على ما دخله النكير ، وعلى قياسه ما قل نكيره على ما كثر، وما عضده عموم كتاب ، أو سنة ، أو قياس شرعي ، أو معنى عقلي على غيره . فإن عضد أحدهما قرآن ، والآخر سنة ، قدم الأول في رواية ، لتنوع الدلالة ، والثاني في أخرى ، إذ السنة مقدمة بطريق البيان ، وما ورد ابتداء على ذي السبب ، لاحتمال اختصاصه بسببه . وما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره في رواية ، لورود الأمر باتباعهم ، وما لم ينقل عن راويه خلافه على غيره .
ولا يرجح بقول أهل المدينة ، كقول بعض الشافعية ، ولا بقول أهل الكوفة ، كقول بعض الحنفية ، إذ لا تأثير للأماكن في زيادة الظنون .
وما عضده من احتمالات الخبر بتفسير الراوي ، أو غيره من وجوه الترجيحات على غيره من الاحتمالات .
أي : إذا تعارض عامان أحدهما باق على عمومه ، والآخر قد خص بصورة فأكثر ; رجح الباقي على عمومه على المخصوص ، لأنه مختلف في بقائه حقيقة أو مجازا ، وحجة ، أو غير حجة ، والباقي على عمومه لا خلاف في بقائه حقيقة وحجة ، فكان راجحا .
قلت : وكذلك يقدم ما كان أقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا ، مثل [ ص: 707 ] أن يخص أحدهما بصورة ، والآخر بصورتين ، فالأول أرجح ، لأنه أقرب إلى الأصل ، وهو البقاء على العموم ومخالفة الأصل فيه أقل .
قوله : " والمتلقى " . أي : ويرجح المتلقى " بالقبول على ما دخله النكير " ، أي : إذا كان أحد النصين قد تلقاه العلماء بالقبول ، ولم يلحقه إنكار من أحد منهم فهو مقدم على ما لحقه الإنكار من بعضهم ، لأن لحوق الإنكار شبهة ، فالخالي منها يكون راجحا ، كما في المسند مع المرسل " وعلى قياسه " أي : وعلى قياس قولنا : يقدم المتلقى بالقبول على ما دخله النكير أن يقدم " ما قل نكيره على ما كثر " نكيره ، مثل أن يتعارض النصان ; وكلاهما قد أنكره بعض العلماء ، فما قل منكره منهما مقدم ، مثل أن ينكر أحدهما اثنان والآخر ثلاثة ، فيرجح الأول ، كالأقل تخصيصا مع الأكثر .
قوله : " وما عضده عموم كتاب ، أو سنة ، أو قياس شرعي ، أو معنى عقلي على غيره " .
وحاصل هذا أن أحد الدليلين يترجح باعتضاده بدليل آخر مما يفيده قوة لاجتماع دليلين في مقابلة دليل واحد . فإذا تعارض نصان ; ومع أحدهما عموم كتاب ، أو عموم سنة ، أو عضده قياس شرعي أو معنى عقلي يحصل مصلحة ما ; كان مقدما على الآخر لتجرده عن مرجح .
قوله : " فإن عضد أحدهما - أي : أحد النصين - قرآن والآخر سنة " ، أي : تعارض حديثان وعضد أحدهما آية ، وعضد الآخر حديث ، ففيه روايتان :
إحداهما : يقدم ما عضده القرآن لتنوع الدلالة ، أي : لأن الدلالة صارت من نوعين : الكتاب والسنة ، بخلاف ما في الطرف الآخر ، فإن دلالته من نوع واحد وهو الحديث .
[ ص: 708 ] والرواية الثانية : يقدم ما عضده الحديث ، لأن " السنة مقدمة " على الكتاب " بطريق البيان " ، أي : من جهة كونها مبينة له بحق الأصل والغالب ، لقوله - عز وجل - : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .
واعلم أن التعارض إما أن يقع بين آيتين ، أو خبرين ، أو قياسين ، أو آية وخبر ، أو آية وقياس ، أو خبر وقياس . وعلى التقديرات الستة ، فالمرجح من الطرفين إما آيتان ، أو خبران ، أو قياسان ، أو آية وخبر ، أو آية وقياس ، أو خبر وقياس . فهذه ستة وثلاثون تعارضا مضروب ستة في ستة ، فحيث اتحد نوع العاضد والمعضود من الطرفين كآيتين عضدتهما آيتان ، أو خبرين عضدهما خبران ، أو قياسين عضدهما قياسان ; رجح أحد الطرفين ببعض وجوه الترجيح مما سبق أو غيره . وحيث اختلف نوعها ، كآية وخبر مع خبرين أو آيتين ; فهل يقدم ما تعدد نوع دلالته أو ما عضدته السنة ؟ فيه ما ذكر . والأضبط من هذا أن يرجح ما تخيل فيه زيادة قوة كائنا من ذلك ما كان ، وقد تتخيل زيادة القوة مع اتحاد النوع واختلافه .
قوله : " وما ورد " . أي : ويرجح ما ورد " ابتداء " على غير سبب على ما ورد على سبب " لاحتمال اختصاصه " ، أي : اختصاص ذي السبب " بسببه " . وهذا الاحتمال معدوم فيما ورد ابتداء ، فيكون راجحا ، ولأن الوارد على سبب مختلف فيه بخلاف غيره ، والمختلف فيه مرجوح بالنسبة إلى غيره ، كالمرسل مع المسند ، والمخصوص على غير المخصوص .
قوله : " وما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره في رواية " ، أي : إذا تعارض نصان ، وقد عمل بأحدهما الخلفاء الراشدون ، فهل يكون عملهم به [ ص: 709 ] مرجحا له على النص الآخر ؟ فيه قولان :
والقول الثاني : لا يكون ما عملوا به راجحا على غيره ، لجواز أنه لم يبلغهم . وحينئذ لا يدل تركهم له على مرجوحيته والأول أظهر .
فائدة : إذا وجدنا فتيا صحابي مشهور بالعلم والفقه على خلاف نص ، لا يجوز لنا أن نجزم بخطئه الخطأ الاجتهادي ، لاحتمال ظهور الصحابي على نص أو دليل راجح أفتى به ، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - أقرب إلى معرفة النصوص النبوية منا لمعاصرتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكم من نص نبوي كان عند الصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم دثر ، فلم يبلغنا ، وذلك كفتيا علي ، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المتوفى عنها تعتد بأطول الأجلين ، ونحوها من المسائل التي نقم بعض الناس على علي فيها لمخالفته للنص ، وخطئه بذلك .
[ ص: 710 ] قوله : " وما لم ينقل عن راويه خلافه على غيره " ، أي : إذا تعارض خبران ، أحدهما قد نقل عن راويه خلافه قولا أو فعلا ، والآخر لم ينقل عن راويه خلافه قولا أو فعلا ، قدم الثاني ، لأن مخالفة الراوي ما رواه يؤثر شبهة ، فالخالي منه يكون راجحا ، كما سبق فيما لحقه النكير بالنسبة إلى غيره .
قوله : " ولا يرجح بقول أهل المدينة " . أي : إذا تعارض نصان ، وقد قال أهل المدينة بأحدهما ، فلا يكون ذلك ترجيحا له ، خلافا لبعض الشافعية في قولهم : يرجح به . وكذلك لا يرجح بقول أهل الكوفة ، خلافا لبعض الحنفية :
حجة الأول : أن الأماكن لا تأثير لها في زيادة الظنون ، فلا فرق بين قول أهل المدينة والكوفة وغيرهما في عدم الترجيح به .
حجة الثاني : أن إطباق الجم الغفير على العمل على وفق أحد الخبرين يفيده تقوية وزيادة ظن ، فيرجح به ، كموافقة خبر آخر ، ولأن اتفاق أهل البلد المذكورين قد اختلف في كونه إجماعا ، فإن كان إجماعا ، فهو مرجح لا محالة ، وإن لم يكن إجماعا ، فأدنى أحواله أن يكون مرجحا ، كالظاهر والقياس وخبر الواحد .
قلت : هذا هو الظاهر .
وقولهم : " لا تأثير للأماكن في زيادة الظنون " .
قلنا : نحن لا نرجح بالأماكن ، بل بأقوال الجم الغفير من علماء أهلها ، وهو مفيد لزيادة الظن بلا شك .
[ ص: 711 ] قوله : " وما عضده من احتمالات الخبر بتفسير الراوي ، أو غيره من وجوه الترجيحات على غيره من الاحتمالات " .
أي : إذا كان الخبر يحتمل وجوها ، وتتجه له محامل ، ففسره الراوي على بعضها ; كان ما فسره الراوي عليه مقدما على باقيها . وكذلك إذا ترجح بعض الاحتمالات المذكورة بوجه من وجوه الترجيح ، كان مقدما على غيره مما لم يترجح بذلك :