[ ص: 716 ] وأما الثاني : فتقدم العلة المجمع عليها على غيرها ، والمنصوصة ، على المستنبطة ، والثابتة عليتها تواترا على الثابتة عليتها آحادا ، والمناسبة على غيرها ، لاختصاصها بزيادة القبول في العقول ، والناقلة على المقررة ، والحاظرة على المبيحة ، ومسقطة الحد وموجبة العتق والأخف حكما على خلاف فيه ، كالخبر ، والوصفية للاتفاق عليها على الاسمية ، والمردودة إلى أصل قاس الشارع عليه على غيرها ، كقياس الحج على الدين ، والقبلة على المضمضة ، والمطردة على غيرها إن قيل بصحتها ، والمنعكسة على غيرها إن اشترط العكس ، إذ انتفاء الحكم عند انتفائها يدل على زيادة اختصاصها بالتأثير ، فتصير كالحد مع المحدود والعقلية مع المعلول .
الأول : ترجح " العلة المجمع عليها على غير " المجمع عليها ، أي : إذا ظهر في الأصل الواحد وصفان مناسبان ، وقد أجمع على التعليل بأحدهما ، واختلف في التعليل بالآخر ، فالتعليل بالوصف المجمع عليه راجح لقوة مستندها ، وهو الإجماع ، وهو كما لو اختلف أهل العصر الأول على قولين ; وأجمع أهل العصر الثاني على أحدهما ; تعين ولم يجز الأخذ بغيره .
الوجه الثاني : ترجح العلة " المنصوصة على المستنبطة " أي : التي تثبت علتها بالنص على التي ثبتت علتها بالاستنباط ، لأن نص الشارع أولى من اجتهاد المجتهد ، لعصمة النص دونه .
الوجه الرابع : ترجح العلة المناسبة على غير المناسبة ، وكذلك التي هي أكثر مناسبة على غيرها لاختصاص المناسبة " بزيادة القبول في العقل " ، أي : لأن العقول أسرع انقيادا ، وأشد قبولا للعلة المناسبة ، والتي هي أكثر مناسبة .
قلت : وهذا يجب أن يكون في المنصوصتين أو المستنبطتين ، أما إن كانت إحداهما منصوصة ، فهي الراجحة ، سواء كانت مناسبة ، أو أشد مناسبة أو لا ، لعصمة النص ، كما لو اجتمع نص وقياس ، كان النص مقدما .
الوجه السابع : ترجح " مسقطة الحد " على موجبته ، " وموجبة العتق " على نافيته ، والتي هي أخف حكما على التي أثقل حكما ، " على خلاف " في ذلك كله ، كما سبق في نظيره من الأخبار ، لأن العلل مستفادة من النصوص فتتبعها في الخلاف والوفاق في ذلك ونحوه . وهذا كله في المنصوصتين والمستنبطتين ، أما في المنصوصة والمستنبطة ، فالمنصوصة واجبة التقديم بكل حال ، لما سبق في المناسبة مع غيرها .
[ ص: 718 ] الوجه الثامن : تقدم العلة : " الوصفية للاتفاق عليها على الاسمية " ، أي : العلة التي هي وصف ، ترجح على التي هي اسم ، لأن التعليل بالأوصاف متفق عليه ، بخلاف التعليل بالأسماء ، كما سبق ، ولأنه أكثر فائدة ، كتعليل الربا في البر بكونه مكيلا أو مطعوما يقدم على التعليل بكونه برا ، وفي الذهب بكونه موزونا يقدم على التعليل بكونه ذهبا ، وربما نزع هذا إلى تعدي العلة وقصورها .
فلو قال قائل : الحج على المغصوب لا يجزئ بالقياس على الصلاة ، والقبلة تفطر الصائم ، لأنها نوع استمتاع بالقياس على الوطء ; لقلنا : القياس على ما قاس عليه الشارع أولى ، لأنه أعلم بالأحكام ومصالحها ومفاسدها ، ويصير القياس المعارض لقياس الشارع ، كالقياس المعارض لنصه ، بل هو معارض لنصه حقيقة ، لأنه نص على الحكم ، ثم أوضحه بالقياس على أصل واضح ، لأنه قال للخثعمية : حجي عن أبيك ، وكأنه قال لعمر : لا تفطر بالقبلة كما لا تفطر إذا تمضمضت .
وتحقيق هذا أن غير المطردة وهي المنتقضة بصورة فأكثر إن لم نقل بصحتها لم تعارض المطردة حتى تحتاج إلى الترجيح ، وتكون كالخبر الضعيف [ ص: 719 ] مع الصحيح ، وإن قلنا بصحتها ، فاجتمعت هي والمطردة ، فالمطردة راجحة ، لأن ظن العلية فيها أغلب ، ولأنها متفق عليها ، والمنتقضة مختلف فيها ، فهما كالعامين إذا خص أحدهما دون الآخر كان الباقي على عمومه راجحا .
الوجه الحادي عشر : العلة " المنعكسة " راجحة على غير المنعكسة " إن اشترط العكس " ، يعني في العلل : قد سبق أن اطراد العلة هو وجود الحكم بوجودها حيث وجدت ، وانعكاسها هو انتفاء الحكم لانتفائها ، وسبق أيضا أن انعكاس العلة هل هو شرط في صحتها أم لا ؟ فإن لم يشترط العكس لم ترجح المنعكسة على غير المنعكسة ، لأن المشترك بينهما في شرط الصحة هو الاطراد وهو موجود ، والانعكاس غير مشترط ، فوجوده كالعدم ، وهو كالإخوة من الأم مع الإخوة من الأب في ولاية النكاح ، وإن اشترطنا انعكاس العلة رجحت المنعكسة على غيرها ، لأن " انتفاء الحكم عند انتفائها يدل على زيادة اختصاصها بالتأثير ، فتصير كالحد مع المحدود " يقدم المنعكس فيه على غيره ، وكالعلة " العقلية مع المعلول " ، كالتسويد مع الاسوداد ، فكانت المشبهة لها من العلل الشرعية أولى ، وصار انعكاسها على هذا كإخوة الأم مع إخوة الأب في باب الميراث ، يرجح بها دلالته على أخصية القرابة .