لنا ، إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته ، وقد صح ثم ، فليصح هنا .
أما الملازمة ، فلأن المحال ، ما لا يتصور وقوعه ، وهو مشترك بين القسمين . أما الأولى فظاهرة ، إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود . أما الثانية ، فلأن خلاف معلوم الله تعالى محال ، وبه احتج آدم على موسى ، فلا يتصور وقوعه ، وإلا انقلب العلم الأزلي جهلا . . وقد جاز التكليف به إجماعا ، فليجز بالمحال لذاته ، بجامع الاستحالة ، ولا أثر للفرق بالإمكان الذاتي ، لانتساخه بالاستحالة بالغير العرضية . وأيضا فكل مكلف به ، إما أن يتعلق علم الله تعالى بوجوده ، فيجب . أو لا ، فيمتنع ، والتكليف بهما محال .
قوله : " لنا ، إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته ، وقد صح ثم ، فليصح هنا " .
وتقريره : إن صح التكليف بالمحال لغيره ، كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن ، صح التكليف بالمحال لذاته ، كالجمع بين الضدين وقد صح التكليف بالمحال لغيره بالإجماع على تكليف كل كافر بالإيمان ، فيلزم أن يصح التكليف بالمحال لذاته ، هذا تقرير نظم الدليل .
قوله : " أما الملازمة " إلى آخره . هذا تقرير مقدمات الدليل ، والملازمة ، هي كون أحد الشيئين ملازما للآخر ، لا ينفك عنه ، فيستدل بوجود الملزوم على وجود اللازم ، لاستحالة وجود ملزوم لا لازم له . وهو كقولنا : إن كان هذا إنسانا ، فهو [ ص: 230 ] حيوان ، لكنه إنسان ، فهو حيوان ، فالإنسان ملزوم للحيوان ، والحيوان لازم للإنسان فلا جرم لما وجد الإنسان الذي هو الملزوم ، لزم وجود الحيوان الذي هو اللازم ، عدنا إلى تقرير عبارة " المختصر " .
فقولنا : إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح التكليف بالمحال لذاته ، هذا هو الملازمة التي نريد تقريرها .
وتكليف المحال لغيره ملزوم لتكليف المحال لذاته . ومقصودنا ، أن الأول ملزوم للثاني ، فإذا تقرر ذلك ، لزم من صحة التكليف بالمحال لغيره ، صحة التكليف بالمحال لذاته ، لأن الأول ملزوم للثاني ، كما يلزم من وجود الإنسان وجود الحيوان ، لأنه ملزوم للحيوان .
ووجه تقرير الملازمة المذكورة ، هو : أن " المحال ما لا يتصور وقوعه ، وهو مشترك بين القسمين " أي : عدم تصور الوقوع مشترك بين القسمين ، وهما المحال لذاته ولغيره : أي : كما لا يتصور وقوع المحال لذاته ، كذلك لا يتصور وقوع المحال لغيره .
ونعني بعدم تصور وقوعه ، أنا لو فرضنا وقوعه ، لزم منه محال مطلقا ، سواء كان لذاته أو لغيره .
قوله : " أما الأولى فظاهرة " إلى آخره . هذا إشارة إلى أن الدليل المذكور في تقرير الملازمة مركب من مقدمتين ، وقد سبق أن المقدمة قضية جعلت جزء قياس ، وهو الدليل ، وأقل ما يتركب منه الدليل مقدمتان : [ ص: 231 ]
فالمقدمة الأولى في هذا الدليل قولنا : المحال : ما لا يتصور وقوعه .
والمقدمة الثانية : قولنا : وهو مشترك بين القسمين ، فنحتاج أن ندل على صحة كل واحدة من المقدمتين ، لتكون الدعوى التي أقمنا الدليل عليها ، وهي لازمة عنه ، صحيحة ، وهي أن المحال لذاته يجوز التكليف به .
وتقرير المقدمة الأولى : وهي قولنا : المحال ما لا يتصور وقوعه ، " إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود " وهذا تقرير اشتقاقي لغوي ، يقال : حال الشيء يحول حولا وحؤولا ، إذا تغير وانقلب عما كان عليه . وأصل مادة " ح و ل " يرجع إلى معنى التغير والانتقال والتحول من حال أو مكان إلى غيره .
قال الجوهري : أرض وقوس مستحيلة ، أي : ليست بمستوية ، لأنها استحالت عن الاستواء إلى العوج .
وقد تقرر في علم الاشتقاق ، أن أركانه مشتق ، ومشتق منه ، ومادة مشتركة ، وهي الحروف الأصول فيهما ، ولا بد من تغيير ما ، بحرف أو بحركة أو بهما ، بزيادة أو نقص ، أو بهما ، على ما تقرر في مواضعه ، فمتى وجد ذلك ، صح الاشتقاق ، وهذا كله موجود ههنا ، فالمشتق هو المحال ، والمشتق منه هو الحول والتحول ، [ ص: 232 ] والحروف الأصول مشتركة بينهما ، وهي " ح و ل " ، فالمحال مفعل من ذلك ، وأصله محول ، مثل مكرم ، والميم زائدة ، وقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها في الأصل ، وهو حول الذي هو أصل حال . أو أن المحال أعل تبعا لأصله ، وهو حال والحؤول فعول ، مثل جلوس وقعود ، من حال يحول ، فالواو الثانية زائدة ، والتغيير بين المحال والحؤول ظاهر في البناء والحروف الزوائد فيهما ، إذ المحال وزنه مفعل ، والزائد فيه ميم ، والحؤول وزنه فعول ، والزائد فيه واو ، فثبت أن المحال مشتق من الحول ثم رأينا أهل اللغة والعرف يريدون بالمحال ما لا حقيقة له ولا وجود ، لتعذر ذلك فيه ، فعلمنا أن جهة اشتقاقه من الحؤول ، وهو كونه حال ، أي : انتقل وانقلب عن جهة الإمكان ، إلى جهة الامتناع ، وهو المطلوب .
ولا نعني بقولنا : انتقل عن جهة الإمكان ، أنه كان ممكنا ثم صار محالا مطلقا ، بل ذلك في المحال لغيره ، وهو باعتبار ذاته ممكن ، وباعتبار ما عرض له من غيره صار محالا . وأما المحال لذاته فلم يزل كذلك .
ومرادنا بانتقاله عن جهة الإمكان ، في الذهن ، لا في الخارج . يعني أنه قد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل كل ما يتلفظ باسمه ممكنا ، إذ يجعل لنا قوة ندرك ذلك ، فانتقل مسمى المحال بإرادة الله تعالى عن هذه الجهة إلى الجهة التي هو عليها من الاستحالة ، وهذا موضع وقف أكثر الناس دونه ، فلنقف عنده ، ولعل بعض من [ ص: 233 ] يقف على ما أشرنا إليه ههنا ، يظن أنه سفسطة ، وما يعقلها إلا العالمون .
هذا تقرير المقدمة الأولى ، وهي قولنا : " المحال ما لا يتصور وقوعه " بقولنا : " إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود " .
وبيان أن خلاف معلوم الله تعالى محال ، هو أنه غير مقدور ، وكل ما كان غير مقدور ، محال ، فهو محال ، أما أنه غير مقدور ، أي : لا يقبل تأثير القدرة في إيجاده ، وهو مذهب عباد بن سليمان ، فلأنه لو كان مقدور الوجود ، مع أنه معلوم عدم الوجود ، ومراد عدم الوجود ، للزم تناقض مقتضى الصفات الإلهية الذاتية ، فإن تم مقتضى القدرة بالوجود ، تخلف مقتضى العلم ، وهو عدم الوجود بالوجود ، فانقلب العلم جهلا ، وإن تم مقتضى العلم بعدم الوجود ، تخلف مقتضى القدرة وهو الوجود ، فانقلبت القدرة عجزا ، وذلك محال ، فثبت أن خلاف معلوم الله تعالى غير مقدور ، فهو محال ، وأما أن ما كان غير مقدور ، فهو محال ، فلأن الموجودات كلها إنما تصدر بقدرة الله تعالى ، فلو فرض وجود ما ليس مقدورا له ، للزم إثبات خالق آخر معه ، وهو محال .
والرد على المعتزلة في أن العبد خالق لأفعاله ، مستقصى مع هذه المسألة وغيرها في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " ، وقد بان بهذا التقرير معنى قولنا : " فلا يتصور وقوعه " أي : لا يتصور وقوع خلاف معلوم الله سبحانه وتعالى ، لاستحالته ، [ ص: 235 ] " وإلا انقلب العلم الأزلي جهلا " ، وثبت بهذا التقرير قولنا : " إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته " .
قوله : " وقد جاز التكليف به إجماعا " أي : بالمحال لغيره " فليجز بالمحال لذاته " .
هذا تقرير لقولنا بعد الملازمة المذكورة : " وقد صح ثم ، فليصح هنا " وهو استثناء المقدم ، وتقريره : أن التكليف بالمحال لغيره ، قد صح بالإجماع ، فيلزم أن يصح التكليف بالمحال لذاته " بجامع الاستحالة " أي : أن الجامع بينهما كون كل واحد منهما محال الوقوع . أما المحال لذاته ، فبالاتفاق ، وأما المحال لغيره ، فبما قررناه ، وقد صح التكليف بأحدهما ، فليصح بالآخر ، عملا بالجامع المؤثر ، وهو الاستحالة المشتركة بينهما ، لأن حكم المثلين واحد .
قوله : " ولا أثر للفرق بالإمكان الذاتي ، لانتساخه بالاستحالة بالغير العرضية " . هذا جواب سؤال مقدر ، وهو أن يقال : المحال لذاته ، والمحال لغيره ، وإن جمع بينهما استحالة الوقوع ، لكن الفرق بينهما من جهة أن المحال لغيره ممكن لذاته ، فله حظ في الإمكان ، وتعلق العلم بعدم وقوعه لا يسلبه هذا الإمكان الذاتي ، ولا يخرجه عن كونه ممكنا ، فوجب أن يصح التكليف به ، بخلاف المحال لذاته ، فإنه لا حظ له في الإمكان بوجه ما ، فالتكليف به يجب أن لا يصح .
وتقرير الجواب : أن هذا الفرق لا أثر له ، لأن الإمكان الذاتي في المحال لغيره انتسخ بما عرض له من الاستحالة له بالغير ، فاستقر الأمر على أنه استحال وجوده ، فصار الحكم للاستحالة العرضية ، الناسخة لحكم الإمكان الذاتي ، فاستوى حينئذ المحال لذاته ولغيره في استحالة الوقوع ، وهو الجامع المؤثر ، فيجب أن يستويا في جواز التكليف بهما ، والفرق بالإمكان الذاتي في أحدهما دون الآخر ، بطل حكمه ، وعفا أثره ، لأن الشيء إذا كان لذاته ممكنا ثم تعلقت الصفات الأزلية الذاتية [ ص: 236 ] باستحالة وجوده ، كان مقتضى تعلقها العرضي - وهو الامتناع - ناسخا لمقتضى الإمكان الذاتي ، وهو الوجود .
قوله : " وأيضا فكل مكلف به " إلى آخره . هذا دليل آخر في المسألة .
وتقريره : أن كل فعل مكلف به " إما أن يتعلق علم الله تعالى بوجوده فيجب ، أو لا " يتعلق بوجوده " فيمتنع " . فإن تعلق بوجوده وجب وجوده في وقته المعين له ، وإن لم يتعلق بوجوده ، كان وجوده ممتنعا ، إذ لا موجد إلا الله تعالى ، ولا موجود إلا عن الله تعالى ، وإذا ثبت ذلك فـ " التكليف بهما " أي : بما وجب وجوده ، وبما امتنع وجوده " محال " ، أما التكليف بما وجب وجوده ، فلأنه تحصيل الحاصل ، وأما التكليف بما امتنع وجوده ، فلأنه إيجاد الممتنع ، والتكليف بالمحال لذاته له أسوة غيره من ذلك .