وأما أن العدم غير مقدور للمكلف ، فلأنه نفي محض ، لا يصح أن يكون أثرا للقدرة ، ولا قابلا لأثرها ، وكل مقدور ، فهو قابل لتأثير القدرة ، فالعدم غير مقدور ، فلا يكون مكلفا به ، وإذا ثبت ذلك " فهو " - يعني متعلق التكليف في النهي - " إما كف النفس " عن المنهي ، أي : حبسها عنه بعنان التقوى " أو ضد المنهي عنه " ، وهو ما لا يمكن اجتماعه معه ، ولو تركه ، " وكلاهما " يعني كف النفس وضد المنهي عنه " فعل " .
أما كون الكف فعلا ، فظاهر ، لأنه صرف النفس عما توجهت إليه من المعصية ، وقهرها على ذلك ، وزجرها عما همت به ، وهذه أفعال حقيقية . غير أن [ ص: 244 ] متعلق هذه الأفعال ، لما لم يكن مشاهدا - وهو النفس - خفي أمرها .
فإن قيل : كيف يكف الإنسان نفسه بنفسه ؟ قلنا : هذا سؤال ، يتعلق جوابه بعلوم الباطن ، واستقصاؤه يخرج بنا عما نحن بصدده ، من تقرير أصول الشرع ، لكنا نشير إلى الجواب إشارة خفيفة ، فنقول :
إن الإنسان عبارة عن هيكل محسوس ، اشتمل على جملة من المعاني ، منها : النفس الأمارة والهوى ، ومنها : العقل والإيمان والحياء ، فالمتوجه إلى مقارفة المعاصي ، هما المعنيان الأولان ، والزاجر عنها المفارق لها هما المعنيان الآخران ، وهما كجيشين في دار يقتتلان ويتضادان ، فالغالب من صحبه التوفيق ، والمغلوب من صحبه الخذلان .
وأما كون ضد المنهي عنه فعلا ، فلأن المراد التلبس بضده ، كمن نهي عن الزنى ، فتشاغل بأكل أو شرب ، أو عن صوم يوم العيد ، فتلبس بالإفطار ، ولو لم يكن ضد الشيء إلا تركه ، لكان فعلا ، لأن ترك الشيء هو الإعراض عن فعله ، والإعراض فعل ، نعم ، تارة يكون بالبدن ، فيظهر للحس ، وتارة يكون بالقلب والنفس ، فيدرك عقلا لا حسا . وقد قال الشاعر الفصيح :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن إلى نحوه من آخر الدهر ترجع
فوصف النفس بالانصراف ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .