[ ص: 261 ] ثم الخطاب ، إما أن يرد باقتضاء الفعل مع الجزم ، وهو الإيجاب ، أو لا مع الجزم ، وهو الندب ، أو باقتضاء الترك مع الجزم ، وهو التحريم . أو لا مع الجزم ، وهو الكراهة . أو بالتخيير ، وهو الإباحة . فهي حكم شرعي ، إذ هي من خطاب الشرع ، خلافا للمعتزلة ، لأنها انتفاء الحرج ، وهو قبل الشرع ، وفي كونها تكليفا خلاف .
قوله : " ثم الخطاب ، إما أن يرد باقتضاء الفعل " إلى آخره .
وتقريرها : أن خطاب الشرع ، إما أن يرد باقتضاء الفعل ، أو باقتضاء الترك ، أو بالتخيير بين الفعل والترك .
فإن ورد باقتضاء الفعل ، فهو إما مع الجزم أو لا ، فإن كان اقتضاؤه الفعل مع الجزم - وهو القطع المقتضي للوعيد على الترك - فهو الإيجاب نحو : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] .
قوله : " فهي " أي : الإباحة " حكم شرعي " ، لأنها " من خطاب الشرع " أي : مقتضاه كما سبق تقريره ، وإذا كانت من مقتضى خطاب الشرع ، كانت حكما شرعيا ، كالندب والكراهة .
وبيان أنها من خطاب الشرع ، هو ما ذكرناه ، من انقسام خطاب الشرع إلى اقتضاء وتخيير ، ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ، " خلافا للمعتزلة " فإنهم قالوا : ليست الإباحة حكما شرعيا " لأنها " عبارة عن " انتفاء الحرج " في الفعل " وهو " معلوم بالعقل " قبل الشرع " لأن شرب الماء ، والتنفس في الهواء ، وأكل الطيبات ، ولبس [ ص: 263 ] الناعمات ، كان الحرج فيه منتفيا قبل الشرع ، وهو بعد الشرع على ما كان ، ولو كانت من أحكام الشرع ، كان الشرع هو الذي أنشأها ، كالوجوب والندب .
والجواب : لا نسلم أن الإباحة انتفاء الحرج ، بل هي تخيير شرعي يلزم عنه انتفاء الحرج ، وإن سلمنا أنها انتفاء الحرج ، لكن إن عنيتم بانتفاء الحرج المستفاد من تخيير الشرع ، فهي شرعية كما قلنا . وإن عنيتم أنه المستفاد من حكم العقل ، فهو مبني على أن العقل حاكم بالتحسين والتقبيح ، وأن الأشياء قبل الشرع على الإباحة ، وهما أصلان ممنوعان ، وقولهم : لو كانت شرعية ، لكان هو الذي أنشأها ، قلنا : كذلك نقول : الشرع هو الذي أنشأها ، ولم تكن موجودة قبل الشرع ، بناء على أن الأفعال قبله على الحظر . والتنفس في الهواء أمر طبعي ضروري لا يدخل تحت التكليف . وإن قلنا : إن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فذلك عندنا بدليل سمعي ، فهو مستند إلى أخبار الشرع ، فهو من حكمه تبين لنا أن ذلك بإخباره ، ثم استمر حتى ورد الشرع . وإن سلمنا أن إباحتها قبل الشرع عقلية ، لكنا نقول : إباحة العقل انتهت بورود الشرع ، والإباحة الثابتة بالشرع أنشأها الشرع ، مثل العقلية لا نفسها ، وذلك لأننا قد بينا غير هاهنا أن العقل ينعزل بورود الشرع من كل تصرف لم يفوضه الشرع إليه ، لأنه مقدمة بين يدي الشرع .
قوله : " وفي كونها " أي : في كون الإباحة " تكليفا خلاف " .
قلت : قد حكينا الخلاف في الندب والكراهة : هل هما تكليف أم لا ؟ وإذا خرج الخلاف فيهما مع كونهما من خطاب الاقتضاء ، فخروجه في الإباحة مع أنها من خطاب التخيير أولى ، مع أن الخلاف في كونها تكليفا لفظي ، إذ من قال : ليست [ ص: 264 ] تكليفا ، نظر إلى أنه ليس فيها مشقة جازمة ، كمشقة الواجب والمحظور ، ولا غير جازمة ، كما بينا في مشقة المندوب والمكروه ، وهي مشقة فوات الفضيلة ، إذ لا فضيلة في المباح لذاته ، يشق على المكلف فواتها بتركه ، ومن قال : هي تكليف - وهو الأستاذ nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفراييني - أراد ; أنه يجب اعتقاد كونه مباحا ، وهذا لا يمنعه الأول ، والأستاذ لا يمنع أن لا مشقة في المباح ، فتبين أن النزاع لفظي ، لعدم وروده على محل واحد ، إذ الأول يقول : الإباحة لا مشقة فيها ، والأستاذ يقول : يجب اعتقاد أن المباح ليس واجبا ، ولا محظورا ، ولا مندوبا ، ولا مكروها .