[ ص: 136 ] فصل
ومنها : أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب; فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني ، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب ، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها ، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم ، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة ، فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة ، التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها ، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها .
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة ، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك
أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات
[ ص: 137 ] حتى كانت قبائل العرب تفهمه .
وأيضا; فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط; لأن الضعيف ليس كالقوي ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العادة الجارية ، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموا ذلك من طريقهم : بالحجة القائمة ، والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ، ولا تذكير ، ولطوقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لم يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة ،
قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] .
لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم : من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه ، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله ، وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم .
[ ص: 138 ] وقد خرج
الترمذي وصححه عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب; قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم
جبريل ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337477يا جبريل ! إني بعثت إلى أمة أميين; منهم العجوز ، والشيخ الكبير ، والغلام ، والجارية ، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . قال يا محمد : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف .
فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم .