[ ص: 529 ] المسألة التاسعة عشرة
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد ; فلا تفريع فيه ، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد ; فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه :
أحدها : أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو مكلف ، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه ، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم ; فإنه عبد مكلف ، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء ، بخلاف المصلحة ; فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين ، وإذا كان كذلك ; فالتعبد لازم لا خيرة فيه ، واعتبار المصلحة فيه الخيرة ، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا ، وإذا وقع الأمر
[ ص: 530 ] والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا ; فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق ، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق ، خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح .
وأيضا ; فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين ; فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل ; يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا ; فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض ، فالأمران على مذهبهم لازمان ، ولا يقول أحد منهم : إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح ، بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد .
والثاني : أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك ، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم ; فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن ; لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا ، إذ هو قطع على غيب بلا دليل ، وذلك غير جائز ; فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم ; فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد .
[ ص: 531 ] فإن قيل : لو جاز ذلك لم نقض بالتعدي على حال ، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى ; لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها ، فإذا أمكن ذلك ; لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك ; فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة .
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد ; لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا ، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة ، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ، ولم نكلف أن ننفي ما عداها ;
[ ص: 532 ] فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم ، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة ، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية ، أو صالح لكونه علة ، كاف في تعدي الحكم به .
وأيضا ; فقد أجاز الجمهور
تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل ، وجميعها معلوم ; فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه ، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر ، فإذا ثبت هذا ، لم يبق للسؤال مورد ; فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ، ولا علينا .
والوجه الثالث ; أن
المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين :
أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة ; كالإجماع ، والنص ، والإشارة ، والسبر ، والمناسبة ، وغيرها . وهذا القسم هو الظاهر الذي
[ ص: 533 ] نعلل به ، ونقول : إن شرعية الأحكام لأجله .
والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطلع عليه إلا بالوحي ; كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام ، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو ، وقذف الرعب ، والقحط ، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي .
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف ; لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر ; إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة ، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل ; فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل ، وإذ
[ ص: 534 ] ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان .
والرابع : أن السائل إذا قال للحاكم : لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان ؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك ; كان مصيبا ، كما أنه إذا قال : لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم ; كان مصيبا أيضا ، والأول جواب التعبد المحض ، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى ، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما ; جاز القصد إلى التعبد ، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا ، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد ، فلما صح القصد مطلقا ; صح المقصود له مطلقا ، وذلك جهة التعبد ، وهو المطلوب .
والخامس : أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع ، لا مجال للعقل فيه ، بناء على قاعدة نفي
[ ص: 535 ] التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما ; فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا ; فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ، فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات ، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا .
ومن هنا يقول العلماء : إن من التكاليف " ما هو حق لله خاصة " ، وهو راجع إلى التعبد ، وما هو حق للعبد ، ويقولون في هذا الثاني : " إن فيه حقا لله " ، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما ، وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه ، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة ، وإن كانت براءة رحمها حقا له ، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم ; فقد صار إذا كل تكليف حقا لله ، فإن ما هو لله ; فهو لله ، وما كان للعبد ; فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله ; إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا .
[ ص: 536 ] ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء : " إن
النهي يقتضي الفساد بإطلاق " ، علمت مفسدة النهي أم لا ، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا ، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه ، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي ، فإذا لم يحصل ; فالعمل باطل بإطلاق ، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد ، وإذا لم يخل ; فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات .
إلا أن
التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية ، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد ; كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ، ومنها ما لا يصح إلا بنية ، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله ; كالزكاة ، والذبائح ، والصيد ، والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها ; فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها ، وكذلك التروك إذا تركت بنية ، وهذا متفق عليه ، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق ، لما حصل الثواب فيها أصلا ; لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها ، والمأمور به متقرب إلى الله به ، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة ، وكل عبادة مفتقرة إلى نية ; فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية .
[ ص: 537 ] فإن قيل : إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب ، لا من كونها طاعة متقربا بها .
قيل : هذا غير صحيح ; إذ لو كان كذلك ; لصح الثواب بدون النية ; لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية ، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية .
وأيضا ; فلو حصل الثواب بغير نية ، لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها ، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد ; فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة ، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه ، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ; ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة .
وهو دليل سادس في المسألة .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية ، وأن لا يصح عمل من لم ينو ، أو يكون عاصيا .
قيل : قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب ، وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة ، فما كان المغلب فيه التعبد ; فمسلم ذلك فيه ، وما غلب فيه جهة العبد ; فحق العبد يحصل بغير نية ; فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله ، فإن راعى جهة الأمر ; فهو من تلك الجهة عبادة ، فلا بد فيه من نية ; أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها ، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة ; كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم ، أو أقرض بقصد دنيوي ، وكذلك البيع والشراء ، والأكل والشرب ، والنكاح والطلاق ، وغيرها . ومن هنا كان السلف - رضي الله عنهم - يثابرون على
[ ص: 538 ] إحضار النيات في الأعمال ، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم .