[ ص: 101 ] المسألة التاسعة
كل ما كان من حقوق الله ، فلا خيرة فيه للمكلف على حال ، وأما
ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة .
أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة ، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد ، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس ، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى ، أو حق الغير من العباد ، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان .
جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت ، أو صلاة من الصلوات المفروضات ، أو زكاة ، أو صوما ، أو حجا ، أو غير ذلك لم يكن له ذلك ، وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها ، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلا من غير ذكاة ، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك ، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق ، أو الربا ، أو سائر البيوع الفاسدة ، أو إسقاط حد الزنا ، أو الخمر ، أو الحرابة ، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه ، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه ، وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله ، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله .
[ ص: 102 ] فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا : إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده ، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا ، فإن قلت : لا ، وهو الفقه كان نقضا لما أصلت; لأنه حقه ، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه ، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك ، وإن قلت نعم خالفت الشرع; إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله ، فقد قال تعالى :
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ثم توعد عليه ، وقال :
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية .
وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه ، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة ، وحجر على مبذر المال ، ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن إضاعة المال ، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة; لأنا نجيب بأن إحياء النفوس ، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد ، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك ، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه ، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به ، فلا يصح للعبد إسقاطه ، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه ، وفات بسبب
[ ص: 103 ] ذلك نفسه ، أو عقله ، أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد; إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه; لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون ، فإن شاء استوفاه ، وإن شاء تركه ، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى :
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ]
وقال :
فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] ، وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه ، أو جسده ، فإن حق الله قد فات ولا جبر له ، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات ، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب ، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه ، وقد قال تعالى :
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [ البقرة : 280 ] بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه ، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع ، فلا ، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب .
وأما تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وما أشبهه فمن حق الله تعالى; لأنه تشريع مبتدأ ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم; إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به ، أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة .
فإن قيل : فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به ، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه ،
[ ص: 104 ] فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا ، فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد .
فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم; لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل ، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب ، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق .
فأما ما هو لله صرفا ، فلا مقال فيه للعبد ، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جهة أنه مستقل بالاختيار ، وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها مما هو حلال له ، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق .
فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من
[ ص: 105 ] غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات ، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله .