[ ص: 217 ] المسألة الرابعة
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها ، وهذا لا نزاع فيه إلا أن
أفعال المكلفين لها اعتباران .
[ ص: 218 ] اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج .
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به ، أو بتركه ، أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة ، أو غير لازمة ، وهذا هو الاعتبار العقلي ، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة ، أو غير لازمة ، وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران ، وكذلك الطهارة والزكاة والحج ، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات ، وغيرها ، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها ، وكذلك سائر الأفعال .
فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو ، ألجهة
[ ص: 219 ] المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج ؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف ، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين فمما يدل على الأول أمور .
أحدها : أن المأمور به ، أو المنهي عنه ، أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء ، وهذا أمر ذهني في الاعتبار; لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني ، فإن صدق عليه صح ، وإلا ، فلا .
ولصاحب الثاني أن يقول : إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمورا ذهنية ، بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ، ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل ، بل الانقياد وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية ، وعند ذلك ، فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك .
[ ص: 220 ] والثاني : أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب
الكعبي المقررة في كتاب الأحكام; لأن كل فعل ، أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ، ويلقى فيه جميع ما تقدم ، وقد مر بطلانه .
ولصاحب الثاني : أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق ، فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة ، وهو من هذا النمط وكذلك كل فعل سائغ في نفسه ، وفيه تعاون على البر والتقوى ، أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند
[ ص: 221 ] طلوع الشمس ، أو عند غروبها ، وهذا الباب واسع جدا .
والثالث : أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر; إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض ، وقد فرضوا مسألة
من صلى وعليه دين حان وقته ، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة; لأنه ترك بها واجبا ، وهكذا كل من خلط عملا صالحا ، وآخر سيئا ، فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج ، وهو على خلاف قول الله تعالى :
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط عملين ، بل صارا عملا واحدا إما صالحا ، وإما سيئا ، ونص الآية يبطل هذا ، وكذلك جريان
[ ص: 222 ] العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج .
ولصاحب الثاني : أن يقول : إن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية تعقل ، أو ما لا تعقل لا يكلف به أما أن ما لا يعقل لا يكلف به فواضح ، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل مجردة فهو ظاهر أيضا .
في المحسوسات فكالإنسان مثلا ، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج; لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة ، وعرض الأظفار ، ونحوها ، وخواص شخصية ، وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ، ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة ، فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج .
وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا ، فإن حقيقتها المركبة من القيام ،
[ ص: 223 ] والركوع والسجود والقراءة ، وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات ، وأحوال ، وهيئات شتى ، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال ، أو النقصان والصحة أو البطلان ، وهي متشخصات ، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك; إذ هي في الذهن كالمعدوم ، وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج ، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة ، وأمور على خلاف ذلك ، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج ، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها ، وهو المطلوب ، فإن حصلت بزيادة وصف ، أو نقصانه فلم تحصل إذا على حقيقتها ، بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد ، فإن قيل : فيشكل معنى الآية إذا ، وهو قوله :
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] ، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة ، أو نقصان ، وتصح مع ذلك ، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة ، وهو الاعتبار الذهني .
قيل : أما الآية ، فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين ، وفي حالين ، وفي مثله نزلت الآية ، وإذا تلازمت حتى صار أحدها : كالوصف للآخر ، فإن كان كالوصف السلبي ، فلا إشكال في عدم التلازم; لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية ، وأما إن كانت
[ ص: 224 ] صفة وجودية ، أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية ، وأما الزيادة غير المبطلة ، أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب ، وينبني عليه مسائل فقهية .