فصل
ولتعين المناط مواضع .
منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى :
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ]
[ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم .
وقوله تعالى :
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337699فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337700ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير .
ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337693من نوقش الحساب عذب .
[ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه .
ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337701ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ .
أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية .
ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى :
وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك .
ومثال الخاص قصة
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من
[ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه
من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى :
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ]
[ ص: 300 ] وقصة
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة .
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي
تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا
[ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين .
لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟
فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل
[ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه .
فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق .