المسألة الثالثة
المباح يطلق بإطلاقين : أحدهما : من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك .
والآخر من حيث يقال : لا حرج فيه ، وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام :
[ ص: 224 ] أحدها :
أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل .
والثاني :
أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك .
والثالث :
أن يكون خادما لمخير فيه .
والرابع :
أن لا يكون فيه شيء من ذلك .
فأما الأول ; فهو المباح بالجزء ، المطلوب الفعل بالكل ، وأما الثاني : فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل ، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها ، وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني .
ومعنى هذه الجملة ; أن المباح - كما مر - يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما ، والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك ; كترك
[ ص: 225 ] الدوام على التنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ; فإن ذلك هو المطلوب ، وقد يكون في طرف الفعل ; كالاستمتاع بالحلال من الطيبات ; فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف - مطلوب ، من حيث هو خادم لمطلوب ، وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك ; فإنه خادم لما يضادها ، وهو الفراغ من الاشتغال بها ، والخادم للمخير فيه
[ ص: 226 ] على حكمه .
وأما الرابع : فلما كان غير خادم لشيء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء ، فصار مطلوب الترك [ أيضا ] ; لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا ، فهو إذا خادم [ لمطلوب الترك فصار مطلوب ] الترك بالكل ، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له ; فصار مطلوب الترك أيضا .
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق ، وإنما هو مباح بالجزء خاصة ، وأما بالكل ; فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك .
فإن قيل : أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين ؟
[ ص: 227 ] فالجواب أن لا ; لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه ، من غير اعتبار أمر خارج ، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه ، فإذا نظرت إليه في نفسه ; فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء ، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة ; فهو المسمى بالمطلوب بالكل ، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس ، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه ; فلا قصد له في أحد الأمرين ، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك ; ، وهو - من جهة ما هو وقاية للحر والبرد ، وموار للسوأة ، وجمال في النظر - مطلوب الفعل ، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ، ، ولا بهذا الوقت المعين ، فهو نظر بالكل لا بالجزء .