[ ص: 108 ] فصل
وكما أن من
حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه .
ووجه آخر وهو أن في
ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح .
وفي الحديث
الحسن عن
أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337766يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل
العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول
[ ص: 109 ] وقد قال
مالك في نزول الحاج
بالمحصب من
مكة ، وهو
الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل
الباجي .
وهو ظاهر من مذهب
مالك في أن
المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره .
وقال بعضهم في حديث
عمر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337767بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن
عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب .
وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337768واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث .
ولمكان هذا ونحوه اقتدى به
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل
nindex.php?page=showalam&ids=16673لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت .
قال
ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء
nindex.php?page=showalam&ids=2بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال .
ومما نحن فيه ما قال
الماوردي فيمن صار
ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337769لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث
[ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا
تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه .
وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه .
وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز مع
عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور .
وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى
سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ]
[ ص: 112 ] وقوله :
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع
مالك لمن
رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس .
وراعى
زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع
البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن
مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " .
ومسألة
مالك مع
nindex.php?page=showalam&ids=15337أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه
مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا
[ ص: 113 ] ولقد دخل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر على
عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه .
ولما هم
nindex.php?page=showalam&ids=15337أبو جعفر المنصور أن يبني
البيت على ما بناه
ابن الزبير على قواعد
إبراهيم شاور
مالكا في ذلك ; فقال له
مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا
البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال .