[ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة .
وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى :
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله :
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى :
هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ،
هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337776تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه :
تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى :
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل .
وفي الحديث :
ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .
وهذا المعنى كثير ،
فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337755خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك
[ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام .
فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه :
وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ]
[ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى :
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله :
كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله
إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات .
فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن
في الشريعة مشتبهات بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337702الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337778فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى
وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337778فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله :
الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337779ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى
[ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر .
الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود .
والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع
تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة .
وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب .