المسألة الخامسة
إن
المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط ; فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر ، والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو : ما خير فيه بين الفعل والترك ، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام ، فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ، ولا حاجي ، ولا تكميلي من حيث هو جزئي ، فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة ، وكذلك المباح الذي يقال : " لا حرج فيه " أولى أن يكون راجعا إلى الحظ ، وأيضا ; فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي أو تكميلي ، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه ، فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ ، وقضاء وطر .
فإن قيل : فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك ، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ؟ ، ولعل
[ ص: 234 ] بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ .
فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد ؛ فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه ، لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض ; غير أن الحظ على ضربين :
أحدهما : داخل تحت الطلب ، فللعبد أخذه من جهة الطلب ، فلا يكون ساعيا في حظه ، وهو مع ذلك لا يفوته حظه ، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه ، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ ، وقد يأخذه من حيث الحظ ; إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب ، فطلبه من ذلك الوجه - صار حظه تابعا للطلب ، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ ، وسمي باسمه ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
والثاني : غير داخل تحت الطلب ; فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره ; لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض ، فهو قد أخذه إذا من جهة حظه ، فلهذا يقال في المباح : إنه العمل المأذون فيه ، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة .