[ ص: 128 ] المسألة السادسة
قد يتعلق
الاجتهاد بتحقيق المناط ، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع ، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية; لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه ، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به ، من حيث قصدت المعرفة به; فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى ، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها ، وصحيحها من سقيمها ، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به; فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به ، كان عالما بالعربية أم لا ، وعارفا بمقاصد الشارع أم لا ، وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات ، والصانع في معرفة عيوب
[ ص: 129 ] الصناعات ، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب ، وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها ، والعاد في صحة القسمة ، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها ، كل هذا ، وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ، ولا العلم بمقاصد الشريعة ، وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد .
والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ، بل هو محال عادة ، وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة ،
كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ، ولا كلام فيه .
وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل
[ ص: 130 ] علم وصناعة ألا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك; إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع ، وذلك باطل; فما أدى إليه مثله; فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ، ومن الكفار المنكرين للشريعة .
ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء ، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة ، وهو التقليد في تحقيق المناط .
فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه ، كما أنه في الأولين كذلك; فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد العربية ، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة ،
والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره ، وهو ظاهر .