فصل
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه : أحدها : أن
أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون ; إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف ، وهو الاقتضاء أو التخيير ، أو لا تكون بجملتها داخلة ; فإن كانت بجملتها داخلة ، فلا زائد على الأحكام الخمسة ، وهو المطلوب ، وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف ، ولو في وقت أو حالة ما ، لكن ذلك باطل ؛ لأنا فرضناه مكلفا ; فلا يصح خروجه ، فلا زائد على الأحكام الخمسة .
والثاني : أن هذا الزائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا ; فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به .
[ ص: 262 ] والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو ، والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي ، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه ، فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام .
وأيضا ; فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي ، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا .
وأما إن كان العفو حكما شرعيا ; فإما من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع ،
وأنواع خطاب التكليف محصورة في الخمسة ،
وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون ، وهذا ليس منها ، فكان لغوا .
والثالث : أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية ، وهي أن يقال :
هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا ، فالمسألة مختلف فيها ، فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل ، والأدلة فيها متعارضة ، فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه .
وأيضا ; إن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول ، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة ، وما تقدم من الأدلة على إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه ، فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة ; لإمكان الجمع بينهما ، ولأن العفو أخروي .
وأيضا ; فإن سلم للعفو ثبوت ، ففي زمانه عليه السلام لا في غيره ، ولإمكان تأويل تلك الظواهر ، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة ;
[ ص: 263 ] فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، والحرج ، وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة ، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب ، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض ، فارتفع الحكم بمرتبة العفو ، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة ، وفي هذا المجال أبحاث أخر .