[ ص: 323 ] المسألة السابعة
يذكر فيها
بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس : ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم ، فقيل له : يا
أبا عبد الله ، والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك ، قال : فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا ؟ قال الراوي : فرأيت في النوم قائلا يقول :
مالك معصوم .
وقال : إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن .
وقال : ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي .
وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل : انصرف حتى أنظر فيها ، فينصرف ويردد فيها ، فقيل له في ذلك ، فبكى وقال : إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم .
وكان إذا جلس نكس رأسه ، وحرك شفتيه يذكر الله ، ولم يلتفت يمينا
[ ص: 324 ] ولا شمالا ، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه - وكان أحمر - فيصفر ، وينكس رأسه ، ويحرك شفتيه ثم يقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، فربما سئل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب منها في واحدة ، وكان يقول : من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب .
وقال بعضهم : لكأنما
مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار .
وقال : ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا ، وإن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يجمعون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم .
قال : ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم
[ ص: 325 ] ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا : هذا حلال ، وهذا حرام ، ولكن يقول : أنا أكره كذا ، وأرى كذا ، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله ، أما سمعت قول الله تعالى :
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية [ يونس : 59 ] ؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله ، والحرام ما حرماه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=17174موسى بن داود : ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول : " لا أحسن " من
مالك ، وربما سمعته يقول : ليس نبتلى بهذا الأمر ، ليس هذا ببلدنا ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ، قال الراوي : فقلت : إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى .
وسأل رجل
مالكا عن مسألة ، وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من
المغرب ، فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها ، قال : ومن يعلمها ؟ قال : من علمه الله ، وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها
أهل المغرب ، فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سمعنا أحدا من
[ ص: 326 ] أشياخنا تكلم فيها ، ولكن تعود ، فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده ، فقال : مسألتي ، فقال : ما أدري ما هي ، فقال الرجل : يا
أبا عبد الله تركت خلفي من يقول : ليس على وجه الأرض أعلم منك ، فقال
مالك غير مستوحش : إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن .
وسأله آخر فلم يجبه ، فقال له : يا
أبا عبد الله أجبني ، فقال ويحك ، تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله ؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك .
وسئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري .
وسئل من
العراق عن أربعين مسألة ، فما أجاب منها إلا في خمس .
وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=17000ابن عجلان : إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله .
[ ص: 327 ] ويروى هذا الكلام عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقال : سمعت
ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري ، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه : لا أدري ، قال
عمر بن يزيد : فقلت
لمالك في ذلك ، فقال : يرجع
أهل الشام إلى شامهم ،
وأهل العراق إلى عراقهم ،
وأهل مصر إلى مصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به ، قال : فأخبرت
الليث بذلك ، فبكى وقال :
مالك والله أقوى من
الليث أو نحو هذا .
وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة ، فما أجاب منها إلا في واحدة .
[ ص: 328 ] وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ، ويقول في الباقي : لا أدري .
قال
أبو مصعب : قال لنا
المغيرة : تعالوا نجمع [ ونستذكر ] كل ما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه
مالكا ، فمكثنا نجمع ذلك ، وكتبناه في قنداق ، ووجه به
المغيرة إليه ، وسأله الجواب ، فأجابه في بعضه ، وكتب في الكثير منه : لا أدري ، فقال
المغيرة : يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى ، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول : لا أدري ؟ .
والروايات عنه في " لا أدري " و " لا أحسن " كثيرة حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول
مالك " لا أدري " لفعل قبل أن يجيب في مسألة .
وقيل : إذا قلت أنت يا
أبا عبد الله لا أدري ، فمن يدري ؟ قال : ويحك أعرفتني ، ومن أنا ، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ؟ ثم أخذ يحتج بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وقال : هذا
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر يقول : لا أدري ، فمن أنا ؟ وإنما
[ ص: 329 ] أهلك الناس العجب ، وطلب الرياسة ، وهذا يضمحل عن قليل .
وقال مرة أخرى : قد ابتلي
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب بهذه الأشياء ، فلم يجب فيها ، وقال
ابن الزبير : لا أدري ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر : لا أدري .
وسئل
مالك عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سهلة ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير ، وكان السائل ذا قدر ، فغضب
مالك وقال : مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى :
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] فالعلم كله ثقيل ، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة .
قال بعضهم : ما سمعت قط أكثر قولا من
مالك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله : لا أدري :
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ الجاثية : 32 ] لفعلنا .
[ ص: 330 ] وقال له
ابن القاسم : ليس بعد
أهل المدينة أعلم بالبيوع من
أهل مصر ، فقال
مالك : ومن أين علموها ؟ قال : منك ، فقال
مالك : ما أعلمها أنا ، فكيف يعلمونها .
وقال
ابن وهب : قال
مالك : سمعت من
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ، ولا أحدث بها ، قال
الفروي : فقلت له : لم ؟ قال : ليس عليها العمل .
وقال رجل
لمالك : إن
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري حدثنا عنك في كذا ، فقال : إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها
بالمدينة .
وقيل له : عند
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة أحاديث ليست عندك ، فقال : أنا أحدث الناس بكل ما سمعت ؟ إني إذا أحمق ، وفي رواية : إني أريد أن أضلهم إذا ، ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها ، وإن كنت أجزع الناس من السياط .
[ ص: 331 ] ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته .
وكان إذا قيل له : ليس هذا الحديث عند غيرك ، تركه ، وإن قيل له : هذا مما يحتج به أهل البدع ، تركه ، وقيل له : إن فلانا يحدث بغرائب ، فقال : من الغريب نفر ، وكان إذا شك في الحديث طرحه كله ، وقال : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه .
وقال : ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا ، يتبع ويجعل سنة ، ويذهب به إلى الأمصار ، قال الله تعالى :
فبشر عبادي الذين يستمعون القول الآية [ الزمر : 17 - 18 ] .
وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه : لا أدري ، إنما هو الرأي ، وأنا أخطئ وأرجع ، وكل ما أقول يكتب .
[ ص: 332 ] وقال
أشهب : ورآني أكتب جوابه في مسألة ، فقال : لا تكتبها ، فإني لا أدري أثبت عليها أم لا .
قال
ابن وهب : سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل ، قال : وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ، ويقول : حسبكم ، من أكثر أخطأ ، وكان يعيب كثرة ذلك ، وقال : يتكلم كأنه جمل مغتلم ، يقول : هو كذا هو كذا ، يهدر في كل شيء ، وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة ، فأفقست البيضة عنده عن فرخ ، أيأكله ؟ فقال
مالك : سل عما يكون ، ودع ما لا يكون ، وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه ، فقال له : لم لا تجيبني يا
أبا عبد الله ؟ فقال : لو سألت عما تنتفع به أجبتك .
وقيل له : إن
قريشا تقول : إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها ، فقال : إنما نتكلم فيما نرجو بركته .
قال
ابن القاسم : كان
مالك لا يكاد يجيب ، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها .
وقال
لابن وهب : اتق هذا الإكثار ، وهذا السماع الذي لا يستقيم أن
[ ص: 333 ] يحدث به ، فقال : إنما أسمعه لأعرفه ، لا لأحدث به ، فقال له : ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به ، وعلى ذلك لقد سمعت من
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها ، وأرجو ألا أفعل ما عشت ، وقد ندمت ألا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت .
قال
أشهب : رأيت في النوم قائلا يقول : لقد لزم
مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها ، وذلك قوله : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " .
هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح ، ولم آت بها على ترجيح تقليد
مالك ، وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها ، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء ، فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام ، غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض .