صفحة جزء
فصل

- ومنها : أن النظر في المسبب قد يكون على التوسط ، كما سيأتي ذكره [ ص: 354 ] إن شاء الله تعالى ، وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات ، وهو أسلم لمن التفت إلى المسبب ، وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر فيحصل بذلك للمتسبب ; إما شدة التعب ، وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له .

أما شدة التعب ; فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك ، وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف ، وأصل هذا تنبيه الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتاب العزيز ـ حالة دعائه الخلق بشدة الحرص ـ على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون إلى قوله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الآية [ الأنعام : 33 - 35 ] .

وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ الشعراء : 3 ] .

وقوله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية [ المائدة : 41 ] .

وقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية إلى قوله : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ هود : 12 ] .

وقوله : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ النحل : 127 ] .

إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد ، والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بقوله : إنما أنت منذر [ الرعد : 7 ] [ ص: 355 ] إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ هود : 12 ] وأشباه ذلك .

وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب ، والله هو المسبب ، وخالق المسبب ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم الآية [ آل عمران : 128 ] ، وهو ينبهك على شدة مقاساته عليه الصلاة والسلام في الحرص على إيمانهم ، ومبالغته في التبليغ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة ، وهي إيمانهم الذي به نجاتهم من العذاب ، حتى جاء في القرآن : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ التوبة : 128 ] .

ومع هذا فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق ، وأحرى بالتوسط في مقام النبوة ، وأدنى من خفة ما يلقاه في ذلك من التعب والمشقة ، وأجرى في سائر الرتب التي دون النبوة ، هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد ، فلا يقدح ذلك في صحة الاستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة ، كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الاستدلال بأحواله ، وأحكامه في أحكام أمته ، ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته .

وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له ; فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون كان مخالفا لمقصود الشارع ; إذ قد تبين أن المسبب ليس [ ص: 356 ] للمكلف ، ولم يكلف به ، بل هو لله وحده ، فمن قصده فالغالب عليه بحسب إفراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين ، وهو إنما يجري على مقتضى إرادة الله تعالى ، لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه ، فقد صار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به ، وذلك خارج عن مقتضى الأدب ، ومعارضة للقدر أو ما هو ينحو ذلك النحو .

وقد جاء في " الصحيح " التنبيه على هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ; فإن لو تفتح عمل الشيطان . فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان ؛ لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم عقلا ، بل ذلك قدر الله ، وما شاء فعل ; إذ لا يعينه وجود السبب ، ولا يعجزه فقدانه .

فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر ، ويبقى السبب : إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف ، وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله ، فلا ينفتح [ عليه ] باب الشيطان ، وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى حتى يصير منه [ ص: 357 ] إلى ما هو مكروه شرعا من تشويش الشيطان ، ومعارضة القدر ، وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية