فصل
فإن قيل : تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد ، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب ، وتبين الآن أن
النظر في المسببات يستجر مصالح ، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها ; فإن كان هذا على الإطلاق كان تناقضا ، وإن لم يكن على الإطلاق ; فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح ، من الالتفات الذي يجر المفاسد بعلامة يوقف عندها أو ضابط يرجع إليه .
فالجواب : أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع ، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة في إكماله ; فهو الذي يجلب المصلحة ، وإن كان
[ ص: 372 ] من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به ; فهو الذي يجلب المفسدة .
وهذان القسمان على ضربين :
أحدهما : ما شأنه ذلك بإطلاق ; بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف ، وبالنسبة إلى كل زمان ، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف .
والثاني : ما شأنه ذلك لا بإطلاق ، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض .
وأيضا ; فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين :
أحدهما : ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به .
والثاني : مظنونا أو مشكوكا فيه ; فيكون موضع نظر وتأمل ; فيحكم بمقتضى الظن ، ويوقف عند تعارض الظنون ، وهذه جملة مجملة غير مفسرة ، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي ; ظهر مغزاه ، وتبين معناه بحول الله .
ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين ; فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية ، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين ، وبالله التوفيق .