الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فتح ملطية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في يوم الاثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز بالجيوش قاصدا ملطية ، وخرجت الأطلاب على راياتها ، وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب ، وكان يوما مشهودا ، وخرج مع الجيش ابن صصرى ؛ لأنه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشافعية ، فساروا حتى دخلوا حلب في الحادي عشر من الشهر ، ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم ، إلى ملطية فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم ، وقد حصنت ومنعت ، وغلقت أبوابها ، فلما رأوا كثرة الجيش ، نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الأمان ، فأمنوا المسلمين ودخلوها ، فقتلوا من الأرمن خلقا ومن النصارى ، وأسروا ذرية كثيرة ، وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين ، وغنموا شيئا كثيرا ، وأخذت أموال كثير من [ ص: 143 ] المسلمين ، ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب ، إلى مرج دابق ، وزينت دمشق ، ودقت البشائر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان . وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق كثير من المسلمين من أهلها . وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الأول وصل إلى دمشق نائبها الأمير تنكز الناصري ، أعزه الله تعالى ، وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية ، وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة ، وأقام المصريون قليلا ثم ترحلوا إلى القاهرة ، وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان ، أطلقها له ملك التتر ، فاستناب بها رجلا كرديا ، فتعدى وأساء ، وظلم ، وكاتب أهلها السلطان الناصر ، وأحبوا أن يكونوا من رعيته ، فلما ساروا إليها وأخذوها ، وفعلوا ما فعلوا فيها - جاءها بعد ذلك الجوبان ، فعمرها ورد إليها خلقا من الأرمن وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا الخبر بمسك بكتمر الحاجب ، وأيدغدي شقير ، وغيرهما ، وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر ، وذلك ؛ لأنهم اتفقوا على السلطان ، فبلغه الخبر ، فمسكهم ، واحتيط على أموالهم وحواصلهم ، وظهر لبكتمر أموال كثيرة ، وأمتعة ، وأخشاب ، وحواصل [ ص: 144 ] كثيرة ، وقدم قجليس من القاهرة ، فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس ، ثم قدم سريعا ومعه الأمير سيف الدين تمر نائب طرابلس تحت الحوطة ، ومسك بدمشق الأمير سيف الدين بهادر آص المنصوري ، فحمل الأول إلى القاهرة ، وجعل مكانه في نيابة طرابلس كستاي ، وحمل الثاني إلى الكرك ، وحزن الناس عليه ودعوا له . وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن ميسر إلى دمشق متوليا حسبتها ، ونظر الأوقاف ، وانصرف ابن الحداد عن الحسبة ، وبهاء الدين بن عليمة عن نظر الأوقاف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ليلة الاثنين ثالث عشر من جمادى الأولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير ، احترق فيه دكاكين كثيرة ، ودور ، وأموال ، وأمتعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية - عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي ، وحضر عنده الأعيان ، وهو رجل له فضيلة ، وحسن خلق ، كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة . وفي يوم الخميس رابع جمادى [ ص: 145 ] الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحسبة ، واستمر ابن ميسر ناظر الأوقاف . وفي يوم الأربعاء تاسع جمادى الآخرة درس ابن صصرى بالأتابكية عوضا عن الشيخ صفي الدين الهندي . وفي يوم الأربعاء الآخر حضر ابن الزملكاني درس الظاهرية الجوانية عوضا عن الهندي أيضا ، بحكم وفاته ، كما ستأتي ترجمته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر رجب أخرج الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة ، وأعيد إلى الإمرة بها . وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب ، فأغاروا على بلاد آمد ، وفتحوا بلدانا كثيرة ، وقتلوا ، وسبوا ، وعادوا ، سالمين ، وخمسوا ما سبوا ، فبلغ سهم الخمس أربعة آلاف رأس وكسورا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر ، وجاء في خدمة خربندا ، واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له ، ووثب عليه رجل فداوي ، من جهة صاحب مصر ، فلم يقدر عليه ، وقتل الفداوي . وفي يوم الأربعاء سادس عشرين رمضان درس بالعادلية الصغيرة الفقيه الإمام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك ، بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها ، وحضر عنده القضاة ، والأعيان ، والخطيب ، وابن الزملكاني أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين [ ص: 146 ] واللبادين ، وسكنها التجار ، فتميزت بذلك أوقاف الجامع ، وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ثامن شوال قتل أحمد الرويس ، شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات ، واستحلال المحرمات ، واستهانته وتنقصه بالكتاب والسنة ، فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم ، فاعتقل ، ثم قتل ، لعنه الله . وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي ، وأميره سيف الدين طقتمر الموساوي ، وقاضيه قاضي ملطية ، وحج فيه قاضي حماة ، وحلب ، وماردين ، ومحيي الدين كاتب ملك الأمراء تنكز ، وصهره فخر الدين المصري ، وتقي الدين الفاضلي . وفي ثامن ذي الحجة ولد للسلطان ولد ذكر ، فزينت البلاد له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية