الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفاة الملك الصالح إسماعيل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر من هذه السنة أظهر موت السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور آخر النهار ، وكان قد عهد بالأمر إلى أخيه لأبويه الملك الكامل سيف الدين أبي الفتوح شعبان ، فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه ، وكان يوما مشهودا ، ثم قدم الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه ، وكان البريد قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوما للشغل بمرض السلطان ، فقدم الأمير سيف الدين بيغرا للبيعة للملك الكامل ، فركب علية الجيش لتلقيه ، فلما كان صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب ، والمقدمين ، وبقية الأمراء والجند - للسلطان الملك الكامل بدار السعادة ، ودقت البشائر ، وزين البلد ، وخطب الخطباء يومئذ للملك الكامل ، جعله الله وجها مباركا على المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درس القاضي جمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية ، نزل له أبوه عنها ، واستخرج له مرسوما سلطانيا بذلك ، فحضر عنده [ ص: 481 ] القضاة ، والأعيان ، وجماعة من الأمراء والفقهاء ، وجلس بين أبيه والقاضي الحنفي ، وأخذ الدرس في قوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ النمل : 15 ] الآيات . وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيه نكارة وبشاعة ، فشنع عليه الحاضرون ، فاستتيب بعد انقضاء الدرس ، وحكم بإسلامه ، وقد طلب إلى الديار المصرية نائب دمشق الأمير سيف الدين طقزدمر وهو متمرض ، انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات ، والبريد يذهب إلى حلب لمجيء نائبها الأمير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق ، وذكر أن الحاج أرقطاي تعين لنيابة حلب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الجمعة رابع شهر جمادى الأولى خرجت أثقال الأمير سيف الدين طقزدمر النائب ، وخيوله ، وهجنه ، ومراكبه ، وحواصله ، وطبلخاناته ، وأولاده في تجمل عظيم ، وأبهة هائلة جدا ، وخرجت المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة ، هذا كله وهو بدار السعادة ، فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج الأمير سيف الدين طقزدمر بنفسه إلى الكسوة في محفة; لمرضه ، مصحوبا بالسلامة ، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستادار الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي ، فتسلم دار السعادة ، وفرح الناس بهم ، وذهب الناس للتهنئة والتودد إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا ، فدخل في تجمل عظيم ، ثم جاء فنزل عند باب السر ، وقبل العتبة على العادة ثم مشى إلى دار السعادة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 482 ] وفي عشية يوم الاثنين رابع عشره قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه من أهل الحبس ثلاثة عشر رجلا ، وأضاف إلى قطع اليد قطع الرجل من كل منهم; لما بلغه أنه تكررت جناياتهم ، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله ، ففرح الناس بذلك لقمعه المفسدين ، وأهل الشرور ، والعبث ، والفساد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واشتهر في العشر الأوسط من جمادى الآخرة وفاة الأمير سيف الدين طقزدمر بعد وصوله إلى الديار المصرية بأيام ، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا الشهر ، وذكر أنه رسم على ولده وأستاداره ودواداره ، وطلب منهم مال جزيل ، فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي علاء الدين بن العز الحنفي ، نائب الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها ، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية إليه ، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل ، كما قدمنا ، ولم يدرس فيها إلا يوما واحدا وهو متمرض ، ثم عاد إلى الصالحية ، فتمادى به مرضه إلى أن مات ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال ، وخرج ناس وتجار كثير جدا ، وكان قد وقع قليل مطر ، فلما برزوا إلى الكسوة [ ص: 483 ] ونحوها ودونها ، ولم يخرج خلق كثير من البلد ، ووقع مطر عظيم جدا ، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلا جدا في شهر رمضان ، وهو كانون الأصم ، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا على الحجاج ضرره ، ثم تدارك المطر وتتابع ، ولله الحمد والمنة ، لكن ترحل الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير ، والله المسلم والمعين والحامي . ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بالصنمين ، فعوقهم أياما بها ، ثم تحاملوا إلى زرع ، فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد ، ورجع كثير منهم أو أكثرهم ، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الأمطار وكثرة الأوحال ، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى ، فحصل لهم رفق بذلك ، والله المستعان . وذكر أن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصنمين وبعد ذلك ، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص ، وقاضيه شهاب بن الشجرة الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ ، والله المستعان . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية