الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع : خطاب العام والمراد الخصوص :

وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن ، فأنكره بعضهم ؛ لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة ، كقوله - تعالى - : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ( العنكبوت : 14 ) والصحيح أنه واقع .

كقوله : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ( آل عمران : 173 ) وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعا ؛ والمراد بعضهم ؛ لأن القائلين غير المقول لهم ، والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي ، والثاني أبو سفيان وأصحابه . قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله : إن الناس قد جمعوا لكم واحد - قوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ( آل عمران : 175 ) فوقعت الإشارة بقوله : ( ذلكم ) إلى واحد بعينه ، ولو كان المعني به جمعا لكان " إنما الشياطين الشياطين " فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ ، وقيل بل وضع فيه ( الذين ) موضع الذي .

[ ص: 352 ] وقوله : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ( البقرة : 13 ) يعني عبد الله بن سلام .

وقوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ( الحجرات : 4 ) قال الضحاك : وهو الأقرع بن حابس .

وقوله - تعالى - : ياأيها الناس اتقوا ربكم ( النساء : 1 ) لم يدخل فيه الأطفال والمجانين .

ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية ، كقوله - تعالى - : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( النساء : 4 ) فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقلة أو مجنونة ثم خص في آخرها بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الآية ( النساء : 4 ) ، فخصها بالعاقلة البالغة ؛ لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو .

ونظيره قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة : 228 ) فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ( البقرة : 228 ) لأن البائنة لا تراجع .

وتارة في أولها كقوله - تعالى - : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ( البقرة : 229 ) فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج ثم قال بعد : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ( البقرة : 229 ) فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها .

وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله - تعالى - : ومن يولهم يومئذ دبره الآية ( الأنفال : 16 ) ، فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ، ثم قال : إن يكن منكم عشرون صابرون الآية ( الأنفال : 65 ) .

ونظيره قوله : حرمت عليكم الميتة ( المائدة : 3 ) وهذا عام في جميع الميتات ، ثم خصه بقوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ( المائدة : 4 ) فأباح الصيد الذي يموت في فم الجارح المعلم .

وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ( المائدة : 96 ) تقديره : وإن كانت ميتة فخص بهذه الآية [ ص: 353 ] عموم تلك . ومثله قوله - تعالى - : أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ( النور : 29 ) .

ونظيره قوله : والدم ( البقرة : 173 ) ، وقال في آية أخرى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ( الأنعام : 145 ) يعني إلا الكبد والطحال ؛ فهو حلال .

ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام ، وهي مكية ، والآية العامة في سورة المائدة ( الآية : 3 ) ، وهي مدنية ، وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع ، كما تقدم في النزول آية الوضوء ؛ على أنه التيمم ، وهذا ماش على مذهب الشافعي في أن العبرة بالخاص ؛ سواء تقدم أم تأخر .

ومثله قوله - تعالى - : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية ( النساء : 20 ) وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ، ثم خصها بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه ( النساء : 4 ) ، وخصها بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به ( البقرة : 229 ) .

ومثله قوله - تعالى - : والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية ( البقرة : 228 ) ، فهذا عام في المدخول بها وغيرها ثم خصها فقال : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن الآية ( الأحزاب : 49 ) ، فخص الآيسة والصغيرة والحامل ؛ فالآيسة والصغيرة بالأشهر ، والحامل بالوضع .

ونظيره قوله : والذين يتوفون منكم الآية ( البقرة : 234 ) ، وهذا عام في الحامل والحائل ، ثم خص بقوله : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ( الطلاق : 4 ) .

ونظيره قوله - تعالى - : فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية ( النساء : 3 ) ، وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ، ثم خص بقوله : حرمت عليكم أمهاتكم الآية ( النساء : 23 ) ، وقوله : الزانية والزاني ( النور : 2 ) عام في الحرائر والإماء ، ثم خصه بقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ( النساء : 25 ) .

وقوله : لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ( البقرة : 254 ) فإن الخلة عامة ، ثم خصها بقوله : [ ص: 354 ] الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( الزخرف : 67 ) .

وكذلك قوله : ولا شفاعة ( البقرة : 254 ) بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .

فائدة

قد يكون الكلامان متصلين ، وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما ؛ وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما : أعط عمرا ، فإن لم تفعل فما أعطيت ؛ يريد إن لم تعط عمرا ، فأنت لم تعط زيدا أيضا ، وذاك غير محسوب لك . ذكره ابن فارس ، وخرج عليه قوله - تعالى - : بلغ ما أنزل إليك من ربك ( المائدة : 67 ) قال : فهذا خاص به يريد هذا الأمر المحدد بلغه ، وإن لم تفعل ( المائدة : 67 ) ولم تبلغ فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) يريد جميع ما أرسلت به .

قلت : وهو وجه حسن ؛ وفي الآية وجوه أخر :

أحدها : أن المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلغ شيئا منها ، فيكون ترك البعض محبطا للباقي . قال الراغب : وكذلك أن حكم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في تكليفاتهم أشد ، وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ وروي هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنهما .

والثاني : قال الإمام فخر الدين : إنه من باب قوله :


أنا أبو النجم وشعري شعري

[ ص: 355 ] معناه : أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شيء قيل في نظم : إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه . وكذا جواب الشرط هاهنا ؛ يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد ، وضعف الوجه الذي قبله بأن من أتى بالبعض وترك البعض ، لو قيل : إنه ترك الكل كان كذبا ، ولو قيل : إن الخلل في ترك البعض ، كالخلل في ترك الكل ، فإنه أيضا محال .

وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر ؛ لأنه إذا كان متى أتي به غير معتد به فوجوده كالعدم ، كقول الشاعر :


سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا     فسيان لا ذم عليك ولا حمد

؛ أي ولم تعط ما يعد نائلا ، وإلا يتكاذب البيت .

الثالث : أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل ، كما في قوله - تعالى - : فكأنما قتل الناس جميعا ( المائدة : 32 ) .

الرابع : أنه وضع السبب موضع المسبب ، ومعناه : إن لم تفعل ذلك ، فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العذاب . ذكر هذا والذي قبله صاحب " الكشاف " .

تنبيه : قال الإمام أبو بكر الرازي : وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما [ ص: 356 ] كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه الكافة ، وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر ؛ نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة ، ومما مست النار ونحوها ، لعموم البلوى بها ، فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر ، علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل . انتهى .

وهذه الدلالة ممنوعة ؛ لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى ، فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل . ومن المعلوم أن الله - سبحانه - لم يكلف رسوله - صلى الله عليه وسلم - إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن ؛ لأنه المعجز الأكبر ، وطريق معرفته القطع ، فأما باقي الأحكام فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل بها إلى الآحاد والقبائل ، وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية