الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وأما مؤكدات الفعلية فأنواع :

أحدها : قد فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد ، وإليه أشار الزمخشري في قوله - تعالى - : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( آل عمران : 101 ) معناه حصل له الهدى لا محالة .

وحكى الجوهري عن الخليل أنه لا يؤتى بها في شيء إلا إذا كان السامع متشوقا إلى سماعه ، كقولك لمن يتشوق سماع قدوم زيد : قد قدم زيد ، فإن لم يكن ، لم يحسن المجيء بها ، بل تقول : قام زيد .

وقال بعض النحاة في قوله - تعالى - : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( الإسراء : 89 ) وفي قوله - تعالى - : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ( البقرة : 65 ) قد في الجملة الفعلية المجاب بها القسم ، مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد .

وتدخل على الماضي ؛ نحو : قد أفلح من زكاها ( الشمس : 9 ) .

[ ص: 515 ] والمضارع ، نحو : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( الأنعام : 33 ) ، قد يعلم ما أنتم عليه ( النور : 64 ) قال الزمخشري : دخلت قد لتوكيد العلم .

ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد ، وبهذا يجاب عن قولهم : إنما تفيد التعليل مع المضارع .

وقال ابن أبان : تفيد مع المستقبل التعليل في وقوعه أو متعلقه ، فالأولى كقولك : زيد قد يفعل كذا ، وليس ذلك منه بالكثير ، والثاني ؛ كقوله - تعالى - : قد يعلم ما أنتم عليه ( النور : 64 ) المعنى - والله أعلم - أقل معلوماته ما أنتم عليه .

ثانيها : السين التي للتنفيس ، قال سيبويه في قوله - تعالى - : فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ( البقرة : 137 ) معنى السين أن ذلك كائن لا محالة ، وإن تأخر إلى حين .

وجرى عليه الزمخشري فقال في قوله - تعالى - : أولئك سيرحمهم الله ( التوبة : 71 ) السين تفيد وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد ، في قولك : سأنتقم منك يوما ؛ يعني أنك لا تفوتني ، وإن تبطأت ، ونحوه : سيجعل لهم الرحمن ودا ( مريم : 96 ) ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ( الضحى : 5 ) ، سوف يؤتيهم أجورهم ( النساء : 152 ) لكن قال في قوله - تعالى - : ولسوف يعطيك ربك فترضى معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير أن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر .

وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل لا من السين ، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله : لا محالة لا إشعار للسين به . وأجيب بوجهين :

[ ص: 516 ] أحدهما : أن السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر ، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع ، وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب . وفيه نظر لأن ذلك يستفاد من المقام لا من السين .

والثاني : أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة ؛ لأنها تفيد أمرين الوعيد والإخبار بطرقه ، وأنه متراخ ، فهو كالإخبار بالشيء مرتين ؛ ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن بتحققه عند المخبر به .

ثالثا : النون الشديدة وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات ، وبالخفيفة ، فهي بمنزلة ذكره مرتين .

قيل : وهذان النونان لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بأن واللام ؛ ولم يقع في القرآن التأكيد بالخفيفة إلا في موضعين : وليكونن من الصاغرين ( يوسف : 32 ) ، وقوله - تعالى - : لنسفعن بالناصية ( العلق : 15 ) .

ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء ، فكذلك لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال ، قال - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( الطارق : 17 ) لم يزد على ثلاثة : مهل وأمهل ، ورويدا ، كلها بمعنى واحد ، وهن : فعلان ، واسم فعل .

رابعا : ( لن ) لتأكيد النفي كإن في تأكيد الإثبات ، فتقول : لا أبرح ، فإذا أردت تأكيد النفي ، قلت : لن أبرح .

قال سيبويه : هي جواب لمن قال : سيفعل ، يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك .

وقال الزمخشري : لن تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل ، بخلاف لا وكذا قال في المفصل : لن لتأكيد ما تعطيه ، لا من نفي المستقبل ، [ ص: 517 ] وبني على ذلك مذهب الاعتزال في قوله - تعالى - : لن تراني ( الأعراف : 143 ) قال : هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ؛ وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين في الشامل عن المعتزلة ورد عليهم بقوله - تعالى - لليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 94 و 95 ) ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة ، فيقولون : يا‎ليتها كانت القاضية ( الحاقة : 27 ) يعني الموت .

ومنهم من قال : لا تنفي الأبد ، ولكن إلى وقت ، بخلاف قول المعتزلة ، وأن النفي بلا أطول من النفي بلن ؛ لأن آخرها ألف ، وهو حرف يطول فيه النفس ، فناسب طول المدة بخلاف لن ، ولذلك قال - تعالى - : لن تراني ( الأعراف : 143 ) وهو مخصص بدار الدنيا .

وقال : لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة ، وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ، ولذلك اختصت لا بزيادة مدة .

وهذا ألطف من رأي المعتزلة ، ولهذا أشار ابن الزملكاني في التبيان بقوله : لا تنفي ما بعد ، ولن تنفي ما قرب ، وبحسن المذهبين أولوا الآيتين : قوله - تعالى - : ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ، ولا يتمنونه أبدا ( الجمعة : 7 ) .

ووجه القول الثاني أن ( لا يتمنونه ) جاء بعد الشرط في قوله - تعالى - : إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ( الجمعة : 6 ) وحرف الشرط يعم كل الأزمنة ، [ ص: 518 ] فقوبل بـ " لا " ليعمم ما هو جواب له ، أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم : تمنوا الموت ، وأما ولن يتمنوه ( البقرة : 95 ) فجاء بعد قوله : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ( البقرة : 94 ) أي إن كانت لكم الدار الآخرة ، فتمنوا الموت الآن ، استعجالا للسكون في دار الكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأحبائه . وعلى وفق هذا القول جاء قوله : لن تراني ( الأعراف : 143 ) .

قلت : والحق أن لا ولن لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة ، والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج ، ومن احتج على التأبيد بقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) وبقوله : لن يخلقوا ذبابا ( الحج : 73 ) عورض بقوله : فلن أكلم اليوم إنسيا ( مريم : 26 ) ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم ، وبقوله : ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ولو كانت للتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا ، والأصل عدمه ، وبقوله : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( طه : 91 ) لا يقال : هي مقيدة فلم تفد التأبيد ، والكلام عند الإطلاق ؛ لأن الخصم يدعي أنها موضوعة لذلك ، فلم تستعمل في غيره . وقد استعملت لا للاستغراق الأبدي في قوله - تعالى - : لا يقضى عليهم فيموتوا ( فاطر : 36 ) وقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) ، ولا يئوده حفظهما ( البقرة : 255 ) ، وقوله : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ( الأعراف : 40 ) وغيره مما هو للتأبيد ، وقد استعملت فيه " لا " دون " لن " ؛ فهذا يدل على أنها لمجرد النفي ، والتأبيد يستفاد من دليل آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية