الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1821 [ ص: 224 ] حديث سادس لحميد الطويل ، عن أنس متصل صحيح

مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه .

التالي السابق


هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوكل إلا ما يحل أكله ، ولا يجعل ثمنا ، ولا عوضا ، ولا جعلا بشيء من الباطل ، واختلف العلماء في هذا المعنى ، فقال قوم : حديث أنس هذا وما جاء في معناه من إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجام أجره ناسخ لما حرمه من ثمن الدم وناسخ لما كرهه من أكل إجارة الحجام .

حدثنا أحمد بن قاسم المقرئ ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه اشترى غلاما حجاما فكسر محاجمه ، أو أمر بها فكسرت .

وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم
، وهذا حديث صحيح ، وظاهره عندي على غير ما تأوله أبو جحيفة بدليل ما في حديث أنس هذا ; لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم ليس من أجرة الحجام في شيء ، وإنما هو كنهيه عن ثمن الكلب وثمن الخمر والخنزير وثمن الميتة ، ونحو [ ص: 225 ] ذلك ، ولما لم يكن نهيه عن ثمن الكلب تحريما لصيده كذلك ليس تحريم ثمن الدم تحريما لأجرة الحجام ; لأنه إنما أخذ أجرة تعبه وعمله وكل ما ينتفع به فجائر بيعه والإجارة عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من السنة قص الشارب .

وقال : أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وأمر بحلق الرأس في الحج فكيف تحرم الإجارة فيما أباحه الله ورسوله قولا وعملا ، فلا سبيل إلى تسليم ما تأوله أبو جحيفة ، وإن كانت له صحبة ; لأن الأصول الصحاح ترده ، فلو كان على ما تأوله أبو جحيفة كان منسوخا بما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

وقال آخرون : كسب الحجام فيه دناءة ، وليس بحرام . واحتجوا بحديث ابن محيصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في أكله وأمره أن يعلفه نواضحه ويطعمه رقيقه .

وكذلك روى رفاعة بن نافع ، قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الحجام وأمرنا أن نطعمه نواضحنا ، فهذا يدل على أنه نزههم عن أكله ، ولو كان حراما لم يأمرهم أن يطعموه رقيقهم ; لأنهم متعبدون فيهم كما تعبدوا في أنفسهم . هذا قول الشافعي وأتباعه وأظن الكراهة منهم في ذلك من أجل أنه ليس يخرج مخرج الإجارة لأنه غير مقدر ، ولا معلوم ، وإنما هو عمل يعطى عليه عامله ما تطيب به نفس معمول له ، وربما لم تطب نفس العامل بذلك فكأنه شيء قد نسخ بسنة الإجارة والبيوع والجعل المقدر المعلوم . وهكذا دخول الحمام عند بعضهم ، وقد بلغني أن طائفة من الشافعيين كرهوا دخول الحمام ، إلا بشيء معروف وإناء معلوم وشيء [ ص: 226 ] محدود يوقف عليه من تناول الماء وغيره ، وهذا شديد جدا ، وفي تواتر العمل بالأمصار في دخول الحمام وأجرة الحجام ما يرد قولهم . وحديث أنس هذا شاهد على تجويز أجرة الحجام بغير سوم ، ولا شيء معلوم قبل العمل ; لأنه لم يذكر ذلك فيه ، ولو ذكر لنقل ، وحسبك بهذا حجة ، وإذا صح هذا كان أصلا في نفسه وفيما كان مثله ، ولم يجز لأحد رده ، والله أعلم .

أخبرنا سعيد بن سيد وعبد الله بن محمد بن يوسف ، قالا : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سمعت أبا جعفر السبتي ، يقول : لم يكن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجام لتحريم ، إنما كان على التنزه وكانت قريش تكره أن تأكل من كسب غلمانها في الحجامة ، وكان الرجل في أول الإسلام يأخذ من شعر أخيه ولحيته ، ولا يأخذ منه على ذلك شيئا .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، عن يحيى ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، عن السائب بن يزيد ، عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث

وهذا الحديث لا يخلو أن يكون منسوخا منه الحجام بحديث أنس وابن عباس والإجماع على [ ص: 227 ] ذلك ، أو يكون على جهة التنزه كما ذكرنا ، وليس في عطف ثمن الكلب ومهر البغي عليه ما يتعلق به في تحريم كسب الحجام ; لأنه قد يعطف الشيء على الشيء وحكمه مختلف ، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع والحمد لله .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن عبد الله المهراني ، حدثنا محمد بن الوليد القرشي ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، حدثنا خالد الحذاء ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره .

قال ابن عباس : ولو كان به بأس لم يعطه . هكذا قال خالد الحذاء ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو علمه خبيثا لم يعطه ، وفي هذا الحديث إباحة الحجامة ، وفي معناها إباحة التداوي كله بما يؤلم ، وبما لا يؤلم إذا كان يرجى نفعه ، وقد بينا ما للعلماء في إباحة التداوي والرقى من الاختلاف والتنازع ، وما في ذلك من الآثار في باب زيد بن أسلم والحمد لله .




الخدمات العلمية