الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1325 [ ص: 242 ] حديث ثان لحميد بن قيس متصل

مالك ، عن حميد بن قيس المكي ، عن مجاهد أنه قال : كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ ، فقال : يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي ، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك ، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه عن ذلك حتى انتهى إلى باب المسجد ، أو إلى دابة يريد أن يركبها ، فقال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ، لا فضل بينهما ، هذا عهد نبينا إلينا ، وعهدنا إليكم .

التالي السابق


في هذا الحديث النهي عن التفاضل في الدنانير والدراهم إذا بيع شيء منها بجنسه ، وقوله فيه " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم " إشارة إلى جنس الأصل ، لا إلى المضروب دون غيره بدليل إرسال ابن عمر الحديث على سؤال الصائغ له عن الذهب المصوغ ، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن ، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم التفاضل في المضروب العين من الذهب والفضة المدرهمة دون التبر والمصوغ منهما ، إلا شيء جاء عن معاوية بن أبي سفيان روي عنه من وجوه ، وقد أجمعوا على خلافه ، فأغنى إجماعهم على ذلك عن الاستشهاد فيه بغيره ، وفي قصة معاوية مع أبي الدرداء إذ باع معاوية السقاية بأكثر من وزنها بيان أن الربا في المصوغ وغير المصوغ والمضروب وغير المضروب .

[ ص: 243 ] قال أبو عمر : فالفضة السوداء والبيضاء والذهب الأحمر والأصفر ، كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض ، إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ، سواء بسواء ، على كل حال ، إلا أن تكون إحدى الفضتين ، أو إحدى الذهبين فيه دخل من غير جنسه ، فإن كانت كذلك لم يجز بيع بعضها ببعض ألبتة على حال ، إلا أن يحيط العلم أن الدخل فيهما سواء ، نحو السكة الواحدة لعدم المماثلة ; لأنا إذا عدمنا حقيقة المماثلة لم نأمن التفاضل ، وقد ورد الشرع بتحريم الازدياد في ذلك فوجب المنع حتى تصح المماثلة .

وروى مالك ، عن نافع ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق ، إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز وسيأتي القول في معنى هذا الحديث في باب نافع إن شاء الله .

قال أبو عمر : المماثلة في الموزونات الوزن لا غير ، وفي المكيلات الكيل ، ولو وزن المكيل رجوت أن يكون مماثلة إن شاء الله ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه وعن بعض أصحابه في هذا الباب شيء لا يصح عنه إن شاء الله ; لأنه قد روي عنه من وجوه خلافه ، وهو الذي عليه علماء الأمصار فلم أر وجها في ذلك للإكثار .

أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا عبد السلام ، عن مغيرة ، عن عبد الرحمن بن أبي نعيم أن أبا سعيد لقي ابن عباس فشهد [ ص: 244 ] على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل ، فمن زاد فقد أربى ، فقال ابن عباس : أتوب إلى الله فيما كنت أفتي به . ورجع عنه ، قال علي : وحدثنا داود بن عمرو الضبي ، قال : حدثنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن ذكوان أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ، لا زيادة وبلغه قول ابن عباس ، قال أبو سعيد : فقلت لابن عباس : ما هذا الحديث الذي تحدث به أشيء سمعته من رسول الله ، أو شيء وجدته في كتاب الله ؟ ، فقال ابن عباس : ما وجدته في كتاب الله ، ولا سمعته من رسول الله ولأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني ، ولكن أسامة بن زيد حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " الربا في النسيئة " .

قال علي : وحدثنا عتيق بن يعقوب الزبيري ، قال : حدثني عبد العزيز بن محمد ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير المكي ، قال : سمعت أبا أسيد الساعدي ، وابن عباس يفتي في الدينار بالدينارين ، فأغلظ له أبو أسيد ، فقال له [ ص: 245 ] ابن عباس : ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد ، فقال أبو أسيد : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم وصاع حنطة بصاع حنطة وصاع شعير بصاع شعير وصاع ملح بصاع ملح ، لا فضل بين شيء من ذلك ، فقال عبد الله بن عباس : هذا شيء إنما كنت أقوله برأيي ، ولم أسمع فيه شيئا .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا سليمان بن علي الربعي ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس أنه رجع عن الصرف ، وقال : إنما كان ذلك رأيا مني ، وهذا أبو سعيد يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وروى ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت سليمان بن يسار يزعم أنه سمع مالك بن أبي عامر يحدث عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين .

قال أبو عمر : لم أر ذكر ما روى ابن عباس ومن تابعه في الصرف ، ولم أعده خلافا لما روي عنه من رجوعه عن ذلك ، وفي رجوعه إلى خبر أبي سعيد المفسر وتركه القول بخبر أسامة بن زيد المجمل ضروب من [ ص: 246 ] الفقه ، ليس هذا موضع ذكرها ، ومن تدبرها ووفق لفهمها أدركها ، وبالله التوفيق .

وقد روي عن كثير من أصحاب مالك ، وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة ، أو دنانير مضروبة فيأتي دار الضرب بفضته ، أو ذهبه ، فيقول للضراب : خذ فضتي هذه ، أو ذهبي ، وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي ، أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه - أن ذلك جائز للضرورة ، وإنه قد عمل به بعض الناس .

قال أبو عمر : هذا مما يرسله العالم عن غير تدبر ، ولا رواية ، وربما حكاه لمعنى قاده إلى حكايته فيتوهم السامع أنه مذهبه فيحمله عنه ، وهذا عين الربا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من زاد ، أو ازداد فقد أربى .

وقال ابن عمر للصائغ : لا . في مثل هذه المسألة سواء ، ونهاه عنها .

وقال : هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم ، وهذا قد باع فضة بفضة أكثر منها وأخذ في المضروب زيادة على غير المضروب ، وهو الربا المجتمع عليه ; لأنه لا يجوز مضروب الفضة ومصوغها بتبرها ، ولا مضروب الذهب ومصوغه بتبره وعينه ، إلا وزنا بوزن عند جميع الفقهاء ، وعلى ذلك تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مسلم المكي ، عن أبي الأشعث [ ص: 247 ] الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : الذهب بالذهب تبره وعينه والفضة بالفضة تبرها وعينها ، يعني وزنا بوزن مثلا بمثل يدا بيد ، من زاد أو ازداد فقد أربى مختصرا ، قال أبو داود : ورواه سعيد بن أبي عروبة وهشام ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، وقد ذكرنا خبر عبادة بكثير من طرقه في مواضع من هذا الكتاب ، وقد رد ابن وهب هذه المسألة عن مالك وأنكرها . وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق ، قال : وليس الربا إلا على من أراد أن يربي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه ، ونسي الأبهري أصله في قطع الذرائع .

وقوله فيمن باع ثوبا بنسيئة ، وهو لا نية له في شرائه ، ثم يجده في السوق أنه لا يجوز له أن يبتاعه منه بدون ما به باعه ، وإن لم يقصد إلى ذلك ، ولم يبتعه ، ومثل هذا كثير ، ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء خاصة ، وقد قال عمر : لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا .

والأمر في هذا بين لمن رزق الإنصاف وألهم رشده ، حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن وردان الرومي أنه سأل ابن عمر ، فقال : إني رجل أصوغ الحلي ، ثم أبيعه وأستفضل فيه قدر أجرتي ، أو عمل يدي ، فقال ابن عمر : الذهب بالذهب ، لا فضل بينهما ، هذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم ، قال الشافعي : يعني بقوله صاحبنا عمر بن الخطاب ، قال : وقول حميد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : عهد نبينا - خطأ .

[ ص: 248 ] قال أبو عمر : قول الشافعي عندي غلط على أصله ; لأن حديث ابن عيينة في قوله صاحبنا مجمل يحتمل أن يكون أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الأظهر فيه ويحتمل أن يكون أراد عمر ، فلما قال مجاهد ، عن ابن عمر : هذا عهد نبينا - فسر ما أجمل وردان الرومي ، وهذا أصل ما يعتمد عليه الشافعي في الآثار ، ولكن الناس لا يسلم منهم أحد من الغلط ، وإنما دخلت الداخلة على الناس من قبل التقليد ; لأنهم إذا تكلم العالم عند من لا يمعن النظر بشيء - كتبه وجعله دينا يرد به ما خالفه دون أن يعرف الوجه فيه فيقع الخلل ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية